محمد العلائي
عن "الدولة القُطرية" وبدائلها (4) البنى الوحدوية القومية
لم يبق اليوم من البُنى التنظيمية الكبيرة للوحدوية القومية غير "الجامعة العربية" التي ظهرت نواتها الأولى في الأربعينيات كأعلى رابطة سياسية معنية بتنسيق التضامن والتعاون بين دول وممالك مستقلة ذات سيادة.
عام 1939م كتب طه حسين مقالاً في مجلة الهلال عن "العقل العربي الحديث" حاول فيه التفريق بين عقل عربي قديم وآخر حديث يختلفان في فهمهما للوحدة العربية [أو الوحدة الإسلامية].
ومما جاء فيه: "فأما أصحاب العقل القديم فيفهمون هذه الوحدة كما يفهمها القدماء في ظل سلطان عام شامل يبسط عليها جناحيه ويحوطها بقوته وبأسه… وأما أصحاب العقل الحديث فيفهمون هذه الوحدة على نحو ما تفهم عليه في البلاد المتحضرة بالحضارات الحديثة الأوروبية، يفهمونها على أنها لا تنفع ولا تفيد إلا إذا احتفظت بالقوميات والشخصيات الوطنية والحريات الكاملة لأعضائها والسيادة العامة لهم في حياتها الداخلية والخارجية وقامت على الحلف الذي لا يفني أمة في أمة ولا يخضع شعباً لشعب، وإنما يمكِّن الأمم من أن تتعاون على أساس ما يكون بين الأنداد من المساواة".
يبدو واضحاً انحياز طه حسين للفهم الذي ينسبه إلى من أسماهم "أصحاب العقل الحديث"، فتكون وحدة العرب أشبه برابطة تعاون بين كيانات وطنية منفصلة، وهو التصور الذي وجد طريقه للتحقق في التجربة من خلال جامعة الدول العربية بعد سنوات قليلة من مقالة طه حسين.
في نفس الفترة تصدى للرد عليه في مجلة الرسالة داعية القومية العربية الشهير ساطع الحصري، وبعد سنوات انضم قسطنطين زريق للرد أيضاً.
ومع ذلك، وعلى الرغم من نبل وشرف مقاصدهما، إلا أن طه حسين -بنزعته المصرية التي لم يكن يخفيها- كان أقرب منهما إلى إدراك ما يمكن أن يكون.
في مرحلة من المراحل، كان للخطاب الوحدوي القومي مفعولاً توحيدياً واقعياً لكن في خدمة العمليات التاريخية المؤسسة للكيانات القُطرية المستقلة التي هي بطبيعتها النقيض المادي لكل ما ينادي به ذلك الخطاب.
هذا ما لاحظه المفكر المغربي محمد عابد الجابري الذي أشار إلى أن تاريخ الكفاح الوطني في الأقطار العربية كان قد اتجه بفكرة الوحدة إلى خدمة نقيضها: الدولة القُطرية، بعثها وبلورتها وترسيمها، (6).
وفي كتاب آخر للجابري، عام 1992م، نقرأ ما يشبه النعي للايديولوجيا القومية التي دأبت على طرح الوحدة العربية كبديل لواقع "التجزئة"، فهذه الأيديولوجيا وفقاً للجابري قد انتهت بقيام نقيضها الموضوعي الذي هو الدولة القُطرية العربية "بوصفها حقيقة دولية وعربية اجتماعية واقتصادية ونفسية لم يعد من الممكن القفز عليها حتى على صعيد الحلم".
ثم يخلص بلهجة قاطعة إلى أن "كل تفكير في الوحدة العربية، اليوم وغداً، لا ينطلق من واقع الدولة القطرية العربية الراهنة، هو تفكير ينتمي إلى مرحلة مضت وانتهت، تفكير لم تعد له اطلاقاً، أية وظيفة ولا أية مهمة".
بعد ثلاث سنوات من كتاب الجابري، أصدر الباحث والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري دراسته المهمة والجريئة "تكوين العرب السياسي ومغزى الدولة القُطرية"، وفيها يحتفي الكاتب بتجربة "الدولة القُطرية"، في مواجهة مع أولئك الذين تناولوها بالإدانة والتعييب والتشكيك.
لقد وجد الأنصاري فيها قيمة تاريخية وأخلاقية إيجابية تقدمية، فهي "الإطار والشكل السياسي العملي الممكن" في مسار التطور العربي.
كان الأنصاري يُكثر -حتى في مؤلفاته الأخرى- من التذكير بحداثة هذه التجربة، مفضِّلاً إرجاع ما يعتريها من قصور في الممارسات، أو ضعف في البنى والهياكل، وغير ذلك من العيوب مثل تركُّز السلطة في يد زعيم قوي ومهمين- إلى عوامل موضوعية متعلقة بعدم نضج واكتمال التجربة.
من وجهة نظره، فإن "إكمال بناء الدولة عملية نمو تاريخي لا يمكن إنجازه بين عشية وضحاها"، لأن الدولة بنمطها الحديث في الجزء الأكبر من المنطقة العربية ظاهرة ليس لها سوابق تاريخية من نوعها.
وكان يحلو له أن يكرر بأن العرب "أمة موحدة الوجدان مفرَّقة الكيان"، والسبب أن قوة "الروابط المعنوية" بينهم، والمتمثلة في اللغة والدين والمشاعر والآداب، يقابلها دائماً ضعف شديد في "الروابط المادية" الواقعية بينهم: (مُدن وعُمران ومركز سياسي موحِّد (دولة) وهياكل إدراية وأنظمة ومؤسسات وطرق اتصال وتفاعل مكثف ومصالح ثابتة).
بعبارة أخرى: لدينا تضخم في المعنويات الموحِّدة مقابل ضمور وقصور في الماديات الموحدة.
بالنسبة لهذا الكاتب، فإن "وحدة الحضارة والثقافة واللغة لا تعني لزوماً وحدة المجتمع والدولة التي يتطلب قيامها واستمرارها تواصلاً موضوعياً عضوياً على قاعدة مادية ومؤسسية من التكامل والتفاعل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي".
يقدم الأنصاري تعليلات تبدو منطقية جداً -جغرافية وتاريخية واقتصادية وعمرانية- للتجزئة السياسية التي أعلنت عن نفسها من خلال الدولة القُطرية، مقللاً من شأن التفسيرات التي تربطها بمؤامرة يقف خلفها الاستعمار، ومجادلاً بأن هذه التجزئة موضوعية أكثر من حُلم التوحيد.
وإذا كنا نقول إن الدولة القُطرية حالة "تجزئة" بمعيار الحُلم القومي العروبي، فإن الأنصاري -على العكس- يعتبرها عملاً تأسيساً وتوحيدياً قياساً إلى ما كان عليه الحال في المنطقة العربية من العزلة والتجزئة المحلية القبلية والعرقية والجغرافية العربية.
فمثلاً، كيف يمكن أن يكون تأسيس الدولة السعودية وامتدادها على ثلثي مساحة شبه الجزيرة العربية تجزئة؟
إن التجزئة صفة لا تناسب إلا الوضع السابق للدولة السعودية.
إضافة إلى ذلك، فالعروبة عنصر أساسي في تكوين الدولة السعودية، ويدل على ذلك اسمها: المملكة العربية السعودية.
بل إن القصة السعودية تجسد صنفا مميزا من القومية العربية المتآلفة بعمق مع الإسلام. وهو صنف عملي على اتصال بالواقع.
لم يتفتَّق عن نظرية في القومية، وإنما عروبته كامنة فيه بالبداهة، بحكم المكان، منشأ العروبة والإسلام، فلم يكن يشعر بالحاجة إلى تقديم خطاب قومي جماهيري على الطريقة الأوروبية كما كان يفعل رواد القومية العروبية الحديثة في الشام والعراق ومصر.
نعود إلى الأنصاري الذي يشكك في أهمّ مسلَّمات العقيدة الوحدوية العروبية والإسلامية معاً والتي يحلو لأصحابها ربط الدولة القُطرية بالاستعمار.
حُجَّته التاريخية أن المنطقة العربية في ظل الحكم العثماني لم تكن موحدة سياسياً بالمعنى الحقيقي العضوي في إطار كيان دولتي يتسم بالمركزية والانتظام والديمومة، فلو كان الحال كذلك لكان من الجائز القول إن هذه المنطقة بقيام الدولة القُطرية قد انحدرت من الوحدة إلى التجزؤ.
ثم يوضح بالقول إن "الشكل والإطار الامبراطوري الموسع والفضفاض للدولة العثمانية لم يكن يحمل أي مفهوم توحيدي بالمعنى العضوي الواقعي للأجزاء والولايات والإيالات والسناجق العربية التي كانت منضوية تحتها، فلقد كانت السلطة الامبراطورية العثمانية اسمية إلى حد كبير من حيث الدور التوحيدي الفعّال للدولة في بنيان المجتمع ونسيجه، وكانت القبائل والطوائف والملل والمدن تعيش حياتها التجزيئية المنفصلة والخاصة بها ـ ولم تكن تعيش حالة وحدة عضوية حقيقية سواء بالمفهوم الوطني القطري الراهن أو المفهوم القومي العربي، أو المفهوم الاسلامي الحقيقي للوحدة، كما يتخيل الآن - بوجدانية عاطفية - بعض الذين يحنون إلى أيام الدولة العثمانية من دعاة الاسلام السياسي".
وينتهي إلى التأكيد بأن "تجربة العرب الراهنة في الدولة الوطنية المعاصرة، لا يمكن تقييمها بدقة، إلا إذا اعتبرت تجربتهم الأولى والأولية في إدارة الدولة ومعايشتها وإكمال بنائها. وإذا كان مستوى الأداء السياسي، رسمياً وشعبياً، حكماً ومعارضة ومواطنين، ليس بالشكل الأمثل، فإن ذلك لا يعود بالضرورة إلى نواقص ومثالب ذاتية فيهم -دولاً وشعوباًـ وإنما إلى عوامل موضوعية، تاريخية ومجتمعية".
الواقعية التي ينتمي لها الأنصاري لا تعني بالضرورة الرضوخ الذليل للواقع على أي حال، وإنما فهمه كما يجب والنفاذ إلى أعماقه، وتجنب مناطحته من غير حاجة أو من غير قدرة على تصور وإنتاج بدائل أسمى منه.
ولهذا، فالأنصاري على الرغم من كل شيء ليس لديه عداء أبداً مع فكرة "الوحدة العربية" كأفق مستقبلي وحلم مشروع بعيد المنال، لكن ليس شرطاً لهذه الوحدة أن تكون وحدة سياسية في دولة مركزية أو فيدرالية كالذي ينادي به التصور المثالي العروبي، وإنما وحدة تكامل وانفتاح وتعاون بين دول.