محمد العلائي
عن "الدولة القُطرية" وبدائلها (5) الطريق إلى وحدة عربية
الطريق إلى وحدة عربية من أي نوع، كما يفضِّل الأنصاري أن يقول، إنما يبدأ بـ"تنمية وإنضاج الدولة القطرية".
وباعتباره بطل النظرية التوفيقية العربية، فإن نموذج الأنصاري للوحدة العربية هو أقرب إلى نموذج طه حسين منه إلى نموذج نديم البيطار.
في مسألة كهذه تأتي توفيقية الأنصاري كحل وسط وممكن بين كل من التجزئة في كمالها والتوحيدية في كمالها.
يقول في مقطع مطول: "التوفيق هو معراجنا الى التوحيد، وتوقنا إليه. بالتوفيق: نعمد إلى النقائض، نقرب فيما بينها، نزيل ما فيها من تعارض قدر المستطاع فنخرج بشيء يعبر عن شوقنا إلى التوحيد ونزو عنا إليه، شيء يشبههه لكنه يقصر دونه، لكون عالم البشر غير عالم الاله. هكذا نصبح بالتوفيق فوق مستوى الثنائية وقرب مستوى الوحدانية، وبه نجتاز التعدد إلى مشارف التوحد. ويبقى التوفيق تعبيرنا الدنيوي المتحقق القاصر عن عقيدتنا التوحيدية المثالية الكاملة".
لكن الأنصاري لا يزعم أن التوفيقية صالحة لكل حال ومقال ولكل زمان ومكان، بقدر ما هي درجات ومقامات، وصلاحيتها في زمن الاستقرار يفوق صلاحيتها في لحظات التحول والحسم.
وهي كذلك ليست محض تلفيق بين متناقضات وإنما ارتفاع مبدع بصراع الأضداد إلى "مستوى المندمج العضوي بصهر طرفيه في وحدة جديدة حية فاعلة".
من جانبنا، سنذهب أبعد من النقطة التي انتهت عندها أطروحات الأنصاري والجابري ولويس عوض وغيرهم، فنقول إن التشكل القانوني والسياسي للعرب في القرن الماضي إلى دول وكيانات قُطرية وطنية مستقلة يمثل عامل قوة وحماية لا عامل ضعف -كما تزعم الفكرة الشائعة، وأن هذه "التجزئة" المنظمة المقنَّنة هي البديل التاريخي العملي الواقعي للحلم الغنائي الوجداني بالوحدة العربية، وهي بلا شك أرقى من التجزئة الجديدة التي نشهد نماذج منها فوق ركام الدول العربية المنهارة: جماعات دينية مسلحة تنتظم في محاور عابرة للحدود.
نعلم تمام العلم أن هذه الجماعات التي عشنا في العقدين الأخيرين صعودها الكابوسي سينتهي بها الحال هي الأخرى ببسط نفوذها على رقع جغرافية محددة، (أي على قُطر أصغر داخل القُطر الكبير المجزأ).
لننظر إلى الفصائل الشيعية في عراق ما بعد صدام، وحزب الله في لبنان، والحوثيين في اليمن، والتنظيمات الجهادية في سوريا، أو حتى التنظيمات والجماعات الجهوية أو القبلية والإثنية في السودان وليبيا، ولنسأل أنفسنا هذا السؤال:
هل هذه الكيانات التقسيمية أرقى وأنفع من الدولة الوطنية؟
إن الفارق من جميع النواحي لا يزال وسيظل لصالح الدولة القُطرية بلا شك.
يكفي أن نعرف حقيقة أن الظواهر البديلة تعتمد في نشاطها على رسالة تخاطب الوجدان الديني الطائفي بدلاً عن مخاطبة الوجدان الوطني التوحيدي.
وهذه الظواهر وإن كانت تبدو اليوم ثورية في لغتها، طائشة في مبدأها، وإن كانت آفاقها النظرية إسلامية توحيدية أممية، وإن كانت ترفع شعارات المواجهة والمقاومة لأمريكا واسرائيل، إلا أن طموحها السياسي سيأخذها عملياً مع مرور الوقت إلى التصرف بواقعية تشبه واقعية وحسابات الدول، ولكن على نطاق جزئي أضيق.
وفيما لو قُدِّر للدولة القُطرية أن تختفي من الوجود كلياً وتحل هذه الظواهر محلها، فمصير هذه الظواهر أيضاً أن تأخذ طابعا قُطريا، لكن على الأجزاء الصغيرة التي تحتلها، وسوف تسعى إلى تقنين وشرعنة وضعها، بل وأن تفعل ما كانت الدول القُطرية قد اضطرت لفعله خلال مسيرتها التكوينية [وهي التي كانت في مبدأها ثورية ضد الإمبريالية والاستعمار]، أي أن الكيانات البديلة ستختبر كل ما اختبرته الدولة القُطرية من التجارب وكل ما اصطدمت به من العوائق والقيود!
خذوا كمثال وعلى نحو خاص نموذج حزب الله في لبنان: انسوا خطابه وما يتسم به من شطط ومبالغة لفظية، وتأملوا في سلوكه وعلاقاته السياسية وردود فعله تجاه إسرائيل، وستكتشفون كيف أنه يلتزم بالكثير من أسباب الحيطة والحذر والبراجماتية التي لا يمكن إلا لدولة طبيعية أن تلتزم بها.
وليس بمقدور شخص عاقل، نزيه الفكر، أن يزعم بأن التنسيق الذي نراه اليوم -تحت عنوان المقاومة- بين تنظيمات كـ حزب الله اللبناني والحشد الشعبي والفصائل الشيعية في العراق والحوثيين في اليمن وحركة حماس، أنجح أو أجدى وأكثر فعالية من التنسيق الذي قام قبل أكثر من نصف قرن بين الدول العربية المحكومة من أنظمة بعضها كان يتبنى نظرياً العقيدة القومية في الصراع العسكري والسياسي مع إسرائيل: نقصد بين مصر وسوريا والأردن والعراق ومنظمة التحرير الفلسطينية!
ببساطة لأن النتائج على الأرض في فلسطين وغير فلسطين لا تضفي المصداقية على زعم كهذا، على الأقل حتى هذه اللحظة.
وعليه، فإننا لا نخطئ إذا قلنا إن الدولة العربية الوطنية القائمة بحدودها المعلومة، وبكل ما يشوبها من نقص، هي ما يمنع وقوع العالم العربي إلى هاوية من الضعف والغياب دفعة واحدة أعمق وأظلم مما هو عليه اليوم. بل إن هذه الدولة تمثل واحدة من أرقى وأخصب تجارب العرب السياسية منذ سقوط الخلافة العربية الأموية على يد بني العباس وأعوانهم أهل خراسان.
نقول هذا على الرغم من أننا في اليمن فقدنا دولتنا الوطنية، إلا أننا مع ذلك لم نفقد الإرادة ولا الأمل في استعادة ما فقدناه.