مجردٌ من عقدِ الشيخ والقبيلة، مجرد من فهلوة السياسي وعقلية العسكري المتحجرة، تحلى بالصبر من أول طلقة حتى آخر قطرة دم.
وهل هناك أغلى من روح أبيك حين تزهق مرتين على مرأى ومسمع منك ومن العالم المنافق.
حقيقة لا يعدو رحيل صالح بذلك السيناريو أكثر من مشهد غير قابل للتأويل، واقع حاول تحريفه مجموعة من المراهقين السياسيين، وجماعة ممتلئة بعقد التاريخ امتلكت مساحات من الوقت والأرض فعمدت لتفتيت النسيج الاجتماعي وجعلت من الأيديولوجيا حاملاً خبيثاً ورافعة متينة لاستهلاك طاقات الناس وتأطيرهم في سياق ديني قائم على الخرافة والعواطف والأكاذيب وادعاء الاصطفاء وأحقية المُلك.
صمتَ طويلًا لكنه حين تحدث كان منضبطًا تجلى في خطابه الأدب الذي حسبه البعض مثالية مبالغاً فيها، ومكاشفة عدها الآخر ضعفاً، ورسائل صُنفت على أنها استجداء، البعض قال ليته سكت وهو مذهب شخصي ووجهة نظر، والبعض قلل من أهمية الخطاب وكأننا في معركة انتخابية.
كثيرون ربما لم يستوعبوا أن مضمون الخطاب قبل كل شيء استحقاق متعلق بالمواطنة قبل أن يتم تجييره سياسيًا لأن الواقع الذي أنتجته الأطراف المتصارعة والقوى الدولية غير مؤهل للخوض فيه ولا مغرٍ أو قابل للتعاطي.
لقد حمل خطاب السفير أحمد علي عبد الله صالح الأخير لغة هادئة عكست روح المسؤولية وحجم المعاناة، والحاجة للتحرر من ربقة القيود الكيدية والعقوبات الظالمة.
لن نتوقف كثيرًا عند المُدخلات، ثمة راهن يفتح باب التساؤلات المريرة، ويُجبر الخواطر على ضخ مزيد من الجهد من أجل بَعثِ الحياة والإبقاء على خيطٍ رفيع من التعقل أمام قضايا عديدة منها العقوبات وتشتت القوى الداخلية وعدم جدية المجتمع الدولي في مساندة الاتفاقات والقرارات المتخذة في سبيل التوصل لعملية سلام وخارطة طريق ناجعة.
لقد كان نهج الرئيس صالح واضحًا فيما يخص سيادة البلد والقضية الفلسطينية واحترام الجوار بما يمكِّن من إدارة المصالح المشتركة وحفظ الود، وكثير من القضايا بدون مزايدة، كان ذلك نهج نظام سياسي قائم بكل أركانه حتى هبّت الفوضى وجمعت لنا هذا المشهد المتوتر والغامض.
ليس بالأمر السهل أن تكون ابن رئيس جمهورية وتقود أقوى فصيل في الجيش والمؤسسة العسكرية عمومًا (الحرس الجمهوري) وفجأة تجد نفسك خارج المشهد بقرار دولي وتَوافق محلي؛ واستجابة ذاتية من أجل استمرار الحياة وعدم الانزلاق إلى حرب أهلية، ثم تجد المشهد وقد خرج من يد الجميع ليصبح بيد جماعة ليست أهلا للحكم ولا لمواصلة مسيرة التنمية والتجربة الديمقراطية، جماعة لها تفكير ومعتقد خارج كل الأطر المتعارف عليها والتي كانت بمثابة دستور حياة لمعظم اليمنيين.
لم يكن سقوط القوى السياسية المناهضة للنظام محل إدراك كامل لكنه كان واضحا أن ما سعت إليه تأسس على أرض رخوة غيرِ قادرة على خلق أجواء سياسية متقاربة، بمعنى أن الأفكار لم تكن على توافق بل إن الهدف الرئيسي هو اسقاط منظومة الحكم واستبدالها بوريث جديد سيتشكل تباعًا بحسب المُوجِّه والأفق المتاح قبل أن تنتكس جميع الرايات التي رُفعت ويأتي من يملأ الفراغ كاملًا.
ما حدث من قرارات ضد الشهيد صالح وبعض أفراد عائلته كان محل جدل وحتى البند السابع، بحيث أن الذي أتى بعد ذلك كان الأسوأ ولا يمكن مقارنته بالدوافع التي كانت تقف وراء تلك العقوبات.
حتى مؤتمر الحوار الوطني الذي نجح نجاحًا باهرًا على الورق كانت ملامحه مفككة على الأرض وفي أروقة المكان، وبرزت معضلات عديدة تحت سقف المؤتمر في فندق (موفنبيك) وفي جبهات القتال، إلا أن أحدًا لم يلتقط الفكرة ويعمل على حلها، واكتفى المعنيون بطباعة المخرجات في كتاب من أجل رفعه من قبل رئيس الجمهورية آنذاك، بل إن البعض هيأ الأجواء لتمدد المليشيا ثم بدأ العد التنازلي للكارثة.
تم فرض العقوبات وبدأ قطيع السياسة بالنهش، وثعالب الطائفية بالمكر، والنسور التي عاشت معظم حياتها على الجِيَف تقافزت، واختنقت البلاد بالمليشيا.
بدأ الحصار داخل مربع سكني لا يحتمل المواجهة حتى بالسيوف والرماح، تم تحشيد السلالة من حجة وصعدة وعمران وذمار واب والبيضاء والمحويت وتعز والحديدة وأطراف صنعاء، مدركين أن الهدف أكبر منهم فتعاملوا على طريقة أبناء الجُروف وقُطاع الطرق كان هدفهم تثبيت العبودية بصورتها الجديدة "الولاء والبراء" والبطنين وسلسلة من الأنساب والألقاب التي تَمنح الحق المطلق.
لقد تم التخلص من صالح بحكم الكاريزما التي تمتع بها خلال الأربعة عقود الماضية، تم دفنه بسرية تامة وتثبيت الفوضى والسيطرة على كامل المشهد، عام يذهب آخر يجيئ، وتؤول الأمور لفئة لا تعرف قيما ولا أعرافا ولا حرية ولا كرامة ولا ديمقراطية، وتجد من يطلب منك الخروج من قيود العقوبات واستعادة بلد تم تمزيقه شر ممزق.
نفس المشهد أرادوه مع صالح، فلا أحد يتوقف عند الفقدان ومرارة الرحيل وإسقاط فكرة الدولة، كل الذي يريدونه منك أن تكون مُخَلِّصَاً في لحظة كنت فيها قد فقدت أهم الأدوات، إذًا نحتاج لأن نعيش الدور نفسه لنعرف قيمة الفقدان وقيمة الحقد والخصومة والفجور وكل ما افتقد للشرف، وقيمة الوطن الذي ينشده الجميع.
علينا أن نكون أقوياء بما فيه الكفاية مواطنين وأفراداً بعد أن دفعنا جميعًا فاتورة باهظة وأوقاتًا ثمينة تم خصمها من العمر بمن فيهم أسرة صالح، لأن الواقع خارج الوصف، والحال تجاوز المعقول، والبلاد كلها في الهاوية.