الأمر يتضح مع مرور الوقت أكثر وأكثر: لقد كان وجود الرئيس السابق صالح هو الذي يصنع فارقاً إيجابياً لمصلحة سلطة صنعاء التي تشكلت من الحوثيين وحزب المؤتمر في 2016.
أما بعد مقتله، فإن أقل ما يقال هو أن الظروف والأحوال بين الأطراف على جانبي جغرافية الصراع اليمني قد تساوت على جميع الأصعدة.
الحوثيون انقلبوا على اتفاق "الشراكة" مع المؤتمر من أول لحظة، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء التبرير؛ الاتفاق الذي فرضه واقع وجود الطرفين معا في مواجهة تهديد مشترك. انقلبوا ببجاحة، وانقلبوا بكل الطرق. كانوا يتصرفون في صنعاء، وفي غير صنعاء، كما لو أن صالح وحزبه وأنصاره لا وزن لهم ولا اعتبار. ظل الحوثيون هكذا في حالة من العماء والعجرفة والاستئساد الصبياني والتلميح الدائم بطرق كثيرة إلى أن الفضل لهم في السماح لصالح وحزبه بالبقاء، وأن عليه أن يكون مدينا لهم وخانعا، وإلا فأمره بسيط وهين، ولن يستغرق كبير جهد.
وكلما طالت الحرب زادوا استئسادا وتنمرا، ثم بلغ بهم الخيلاء الطفولي إلى حد مهاجمة منازل صالح واستهداف أقاربه بحجج يعرف الجميع زيفها.. وبعدما تمكنوا من الرجل وقتلوه، بدأت دعايتهم تعيد تركيب الاحداث وتأويلها بالشكل الذي يُظهرون به صالح في هيئة "الخائن" والمُنقلب عليهم والغدّار والعميل للعدوان. وهذا الأسلوب بالتحديد هو تكرار لما فعله هادي والإصلاح بعد انقلابهم على المبادرة الخليجية وإلصاق التهمة بالرئيس السابق.
(وكأن العادة السخيفة تقضي بأن يلوذ الخاسرون أخلاقيا في مواجهة صالح بأكذوبة، تشبه التظلّم الكيدي، مفادها أن صالح لا يربح إلا لأن خصومه أبرياء وصادقو العهد ومستقيمون، وهو الناكث والماكر والغدّار. ودائما لدى هذه الفكرة النمطية المبتذلة جمهور جاهز لتلقفها وتصديقها دون مساءلة ولا تدقيق في جميع الوقائع وجوالات الصراع التي خاضها صالح وكسبها منذ توليه السلطة إلى الآن).
نحن نتحدث هنا عن حركة مسلحة أهدرت نقاط قوتها وفرصها في زمن قياسي. حركة كانت تضع كل رهاناتها على تحقيق مستوى ضئيل جدا من الأفضلية بالمقارنة مع أخطاء وفشل ونقائص وانقسام خصومها. أي أن طموحها كان يقتصر على أن تكون الخيار السيء مقابل الأكثر سوءاً بقليل!
لكنها راكمت من الاخطاء والحماقات ما يكفي ليتلاشى الفارق "العَرَضِي" بينها وبين القوى والجماعات الأخرى المدعومة عسكريا من دول الجوار. استوت في نظر الناس الخيارات. مع العلم أن الحال في الجغرافيا غير المحكومة من الحوثي يتحسن بانتظام.
الحوثيون حاليا يريدونك أن تقبل بهم لسبب واحد فقط، وهو أن خصومهم مدعومون بشكل مباشر من الخارج.
لم يتبق للحوثي ما يقوله لاقناع الآخرين خارج جماعته بأفضليته سوى القول إن من يقاتلونه "مرتزقة" و"غزاه"!
ومنطقيا، هذا السبب (وحده) لا يكفي، حتى لو كان حقيقة بالكامل.
لماذا لا يكفي؟
- (إذا كنت أنت في الواقع على استعداد لتلحق بي من الأذى بقدر ما يمكن أن يفعله بي أولئك، وإذا كان لم يعد هناك من فرق سوى أن بعض أولئك ليسوا يمنيين كما تقول، أو أنهم يمنيون لكن ممولين ومدعومين من الخارج، فإن كونك ابن البلد، كما تقول، وأن أولئك "غرباء" و"غزاة" و"مرتزقة"، لا يمكن (وحده) أن يكون أساسا مقنعا لكي أختارك. الأشياء لا تحسب هكذا. على الأقل سأرفضكم معا، وهذا كان موقف كتلة كبرى من اليمنيين.
روايتك عن أنك تواجه "غزاة" -حتى لو افترضنا أنها صحيحة- إلا أنها لا يمكن أن تكون شيكا مفتوحا على بياض، بينما أنت تعاملت معها على أنها كذلك. وهي ليست رخصة تجيز لك فعل كل شيء، وتعفيك من كل شيء، بينما أنت تعاملت معها على أنها كذلك. ولا هي ضمانة محسومة بكسب الحرب.
لكي تصمد روايتك طويلا، كان يلزمك توسيع الفارق الأخلاقي بينك وبين خصومك إلى أبعد ما يمكن. كان عليك مراكمة مزايا وحوافز ونقاط تفوق كثيرة جدا، لتعويض عدم التناظر في الإمكانيات والفرص بينك وبين تحالف الأطراف الأخرى، لكنك بدلا من ذلك قمت بإحراق وتبديد أسباب تفوقك البسيطة -رغم أن الفضل في حصولك على معظمها يعود أصلا لخصومك- ورحت تواصل سقوطك إلى نقطة سحيقة، معتقدا أن مجرد وصفك لخصومك بالمرتزقة والغزاة سوف يغنيك عن أي التزامات أخرى تجاه المجتمع الواقع تحت قبضتك، ويغنيك عن أي حكمة ورشد وحسن تدبير، وعن أي حرص على تقليل المظالم، ويغنيك عن الابتعاد عن أنشطة التطييف والخطاب الطائش الهدام، والأجندة الكهنوتية.
كان عليك أن ترتفع إلى مستوى ما تدعي تمثيله والدفاع عنه. لكنك لم تكن، ولن تكون، جديرا بلعب دور الوطني. ممارساتك لا تشبه إلا حقيقتك كحركة كفاح مذهبية انقسامية، أولوياتها لا تتعدى تأكيد وإثبات نفسها من خلال تسييس رموز وإشارات مذهبية وإبرازها في المساجد وفي الإعلام الحكومي وفي منشآت الدولة.
وعندما ارتكبت هذا القدر من الفظاعات والسيئات، فهذا لا يعني سوى أنك قد جعلت من الخروج عليك، والابتعاد عنك، والانحياز ضدك، أعمالا غير باعثة على الخزي ولا العار الوطني، كما يحلو لك أن تتخيل).
باختصار؛ كيف تريد من شخص أن يشعر بأنه "خائن"، بينما أنت بهذا القدر من السوء والضلال الوطني والنكوص التاريخي. لم تحافظ على أدنى درجة من الصواب بحيث يشعر من تقول إنه "خائن" لوطنه بندم "الخيانة".
هناك فرق حاسم بين "خيانة" الوطن وبين التعبير عن رفض جماعة لم تكن يوما صورة مشابهة للوطن، خطابا وسلوكا وفكرا، الوطن باتساعه وتنوع سكانه واختلاف مصالحهم وحساسياتهم.