لأن الحوثي ظاهرة ذات منشأ طائفي على مستوى الخطاب والسلوك والبناء، فإن من غير المفاجىء أن ينكمش تدريجياً ويتحول إلى جزيرة مظلمة معزولة في أعالي الجبال وسط محيط معادٍ واسع.
ليس في خصائص جماعة الحوثي ما يمكن أن يؤهلها لحمل دعوة تحرر وطنية توحيدية. فهي جزء من محور إقليمي يستثمر في تفعيل وتهييج الجماعات على أساس التباين المذهبي وفق منطق الأغلبيات والأقليات مذهبيا. هذا التوجه أثمر في السعودية -مثلا- منطقة توتر محصورة داخل التجمعات الشيعية شرق المملكة (فضلا عن نموذجين قبيحين هما أبرز مخرجات سياسة المحور الإيراني، يتمثلان في العراق ولبنان).
وبنقل هذا النموذج إلى اليمن لن تكون النتيجة تأسيس دولة للإمامة على طريقة أسلاف الحوثي، ولا على طريقة الملالي في إيران. بل -حتى لو لم تتدخل السعودية وحلفاؤها عسكريا- كان المتوقع منذ البداية أن النتيجة ستكون على هذا النحو: خروج معظم مساحة اليمن عن نطاق سيطرة الحوثي تدريجيا وبشكل متتابع، ثم يمتد النزاع مع الحوثي، بتظافر الوطنيين اليمنيين من كل المناطق والخلفيات، إلى داخل المرتفعات التي يتحصن فيها.
بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، لم تعد تلك الجغرافيا التي يشير إليها الطائفيون عادة باعتبارها "منطقة زيدية"- لم تعد منطقة زيدية على الإطلاق، أي أنها لم تعد زيدية بالمعنى القديم السابق للعام 1962، وهو المعنى ذاته الذي جاء الحوثي لإحيائه، ويجد عونا سخيا من خصوم عديمي مسؤولية ومن مثقفين وأنصاف مثقفين وساسة وناشطين.
خلال الخمسين عاما الماضية، أصبح بإمكان المواطن "الزيدي" بالمعنى الجغرافي، أن يكون زيديا مذهبيا، أو أن لا يكون كذلك، يستوي في ذلك مع المواطن "الشافعي".
وإذا اختار أن يظل زيدي المذهب، فإنه صار بوسعه أن يكون كذلك في الفقه والعبادات ضمن الدولة بنظامها الجمهوري، دونما حاجة إلى "إمام" بسلطات عليا مطلقة تقوم على إكراه المجتمع ثم تجييشه في الغزو والاجتياح والجباية. النظام الجمهوري في معناه البسيط هو أن يكون الشعب "إمام" و"خليفة" نفسه.
"الإمامة" نظرية حكم دينية تمثل الشق السياسي في المذهب الزيدي، مثلما هي "الخلافة" في مذاهب السنة.
خلاصة القول هي أنه بدون مؤسسة الإمامة السياسية الكهنوتية، يكف المذهب الزيدي تماما عن أن يكون مشكلة مقلقة في نظر اليمنيين من المذاهب الأخرى.
لا تملك جماعة مثل جماعة الحوثي أي عنصر من مقومات الوطنية اليمنية الجامعة. لقد حاولوا ان يجعلوا من أنفسهم تكرارا رديئا لتجارب الأئمة الزيود في الاجتياح والإخضاع، دونما اعتبار لاختلاف الزمن والظروف، ودونما اعتبار للحساسيات والتباينات المناطقية والاختلافات المذهبية التي يتميز بها المجتمع اليمني.
▪ إن كان هذا الذي يتعرض له اليمن غزوا خارجيا يخفي أطماعا، فلا شك أن اليمنيين سيجدون طريقة لمقاومته ودحره، لكن ليس تحت راية الحوثي، ليس تحت راية طائفية ومشروع كهنوتي عفى عليه الزمن.
ولا يخلو من الدلالة ذلك التوقيت الذي اختاره اليمنيون للتحرك ضد الاستعمار البريطاني في جنوب الوطن بعد عام واحد فقط من الإطاحة بنظام الإمامة في صنعاء. لقد سقط بسقوط هذا النظام مبرر الحماية التي وفرها الإنجليز لسلاطين الجنوب اليمني "الشوافع" المهددين بشكل مستمر من جيوش الإمام "الزيدي". وهذا التعريف المذهبي للصراع استغله الإنجليز بقوة لتغذية الشعور بأهمية وجودهم الاستعماري في جنوب اليمن. إلا أن تعريفا كهذا لم يكن بلا أساس، فطبيعة نظام الإمامة يمنح هذا النوع من التعريفات ما يبررها. فأنت عندما تتحرك سياسيا وعسكريا باعتبارك "زيديا" أو "شيعيا"، فلا تستغرب إذا وجدت من يقف في مواجهتك باعتباره "شافعيا" أو "سنيا". فالحماقة تستولد حماقة من جنسها.
▪ الغزو هو أسلوب لتحقيق مصالح وأهداف سياسية أو اقتصادية، أي أنه طريقة للفعل بغض النظر عن هوية الفاعل، أكان خارجيا أم من الداخل. هناك أحداث تحمل خصائص وسمات الغزو، رغم أن من يقف خلفها جماعات وحركات وزعامات من داخل البلد نفسه.