كنت أعتقد بأننا قد تجاوزنا مرحلة السقوط والفلات النهائي، وأننا قد قطعنا شوطاً لا بأس به في السير باتجاه الدولة المأمولة، وأنه كان هناك خراب في منظومة السلطة ينبغي إصلاحه في سبيل استقامة الدولة المنشودة، ولكن الحرب اظهرت ما كان خفياً في النفوس من البشاعات وأخبرتنا صراحة أنه هناك -غير الخراب في منظومة الحكم والسلطة- حِنشان خبيثة لم نكن على دراية بها.
كنا أصحاباً وأصدقاء شباناً درسنا مع بعض في الجامعة وتقاسمنا الهموم والأفكار، وأكلنا وشربنا سوا، وخططنا للمستقبل سوا، وكرهنا مع بعض كل أولئك الذين يتسببون في شقاء وتعاسة الناس ويستقوون بالسلاح وبالعرق وبالنسب وبصلة القرابة وبالحزب الحاكم لبسط نفوذهم في الحكم على حساب أحلام وآمال الناس.
واليوم أشاهد كثيراً من أولئك الأصحاب والأصدقاء المثقفين وأصحاب الهموم الوطنية العظيمة والكبيرة يقاتلون باستماتة في خندق واحد مع الجبابرة واللصوص متعايشين بيسر مع كل ما كانوا ينتقدونه ويبغضونه ويخططون للخلاص منه في المستقبل!
كنا أصحاباً، صحفيين وأدباء وكتاباً ومثقفين وأكاديميين ومحامين، ضد التوريث وضد ذهاب مواقع السلطة إلى أناس غير مؤهلين، ونقيم الدنيا ولا نقعدها لمجرد أن الحزب الحاكم زور صندوق الانتخابات، واليوم هناك من يحكم البلاد بقوة السلاح وسحر النطفة المقدسة وأحلام الخلافة ومواقع مهمة وحساسة في السلطة ذهبت إلى ناس رصيدهم من العلم والمعرفة مجرد حروب خاضوها في سبيل إسقاط السلطة، وهناك في المقابل صحفيون وأدباء وكتاب ومثقفون وأكاديميون يصفقون ويشجعون ويبذلون كافة المساعي والجهود لإثبات أن ما حدث من استلاب للسلطة بقوة السلاح بطولة وشجاعة نادرة!
كنت أعتقد بأننا جيل يفترض به أن يكون قد تخلص وتخفف من "مطلع ومنزل" و"زيدي وشافعي" وفي ظني أن ما تعلمناه في الجامعة وما عرفناه من كتب التاريخ وما تناقشنا حوله في جلسات المقيل كان كافياً لأن نكون في المستقبل شباناً نافعين لمجتمعنا العليل، لا يخطفنا حزب، ولا يؤثر علينا نسب، ولا يشتت جمعنا أي اصطفاف بدائي خارج عن أهداف بناء الدولة الحديثة التي تحترم حق الجميع في العيش والاختيار والتفكير.. ولكن ما حدث منذ 2011 إلى اليوم من تمييع لوظيفة السلطة، وما رافق سنوات الحرب اللعينة من نهش كان صادماً بشدة، وسقطت الأقنعة عن كثير من الوجوه التي كان المجتمع معولاً عليها، وكان إنسان اليمن الغلبان يتعشم فيها الخير الكبير.
مسكينة اليمن على كل حال، ويبدو حالها بين الأمم اليوم مثل أم رؤوم علّمت وربت ودرست وصبرت في انتظار متى يكبر عيالها عشان يعزوها ويرفعون شأنها وينتشلونها من واقع حالها المرير، ولكن حظها، مع الأسف، كان بائساً تماماً زي الذي يربي له حنش في جيبه.