فهمي محمد
المسراخ.. "محاولة لفهم ما يجري" من منظور آخر
بعد استعادة مديرية المسراخ من قبضة المليشيات الانقلابية لم تتوقف الأحداث هناك عند هذا الحد، كما يجب أن تكون عليه الأمور، بل تحركت بعد ذلك غرائز ورغبات تمارس الانتقام من الماضي بعقلية سياسية سمجة.
ما يلاحظ على الأحداث أنها ليست مجرد أحداث عرضية، كما أنها ليست مجرد صراع سياسي وحسب، بل هي فوق ذلك.. توجه مدعوم يعي ما يريد ويتحرك بضوء أخضر سياسي يهدف إلى التغيير في مراكز القوى والولاءات داخل الوسط الاجتماعي بأجندات سياسية، وهذا التغيير يجب أن يحدث عند الراغبين به على حساب أسر تملك رصيداً نضالياً ونفوذاً اجتماعياً، بل وتملك الرمزية في ذاكرت التاريخ على المستوى الوطني.
هذا التوجه يتحرك حتى اليوم بطريقة "الميكيافليه" ففي سبيل غايته نجده يستخدم خطاب التلفيق والكذب، بل وكل الوسائل غير المشروعة وغير الأخلاقية وغير المقبولة، كما أنه يمارس فجور الخصومة ويتفنن في توزيع تهم التحوث التي أصبحت أسطوانة مشروخة تردد أثناء ارتكاب الجرائم في حق الخصوم السياسيين والاجتماعيين داخل المناطق الخاضعة لسلطة الشرعية لاسيما في تعز.
منذ ثورة 26 سبتمبر شهدت مديرية المسراخ حضورا مكثفا في نفوذ ثلاث أسر قوية: بيت عثمان وبيت الشيخ محمود عبدالحميد وبيت الشيخ عبدالرحمن أحمد، وكلها استغرقت المجال الاجتماعي سياسياً في هذه المديرية، وهذا الاستغراق لم يأت من فراغ ولم تصنعه الصدف، بل أتى نتيجة أدوار نضالية كبيرة ساهمت خلاله قيادة هذه الأسر في صناعة التاريخ السياسي وتحولت في نفس الوقت إلى قوة ونفوذ اجتماعي مؤثرة في حركة المجال الاجتماعي وحتى في مخرجاته السياسية، وهو ما يعني على صعيد آخر أن هذه الأسر أصبحت حتى اليوم تملك الرمزية والتأثير على مستوى الواقع والذاكرة في هذه المديرية.
على سبيل المثال، عندما تذكر بيت عثمان فإنك تعود بذاكرتك إلى محمد علي عثمان ودوره في ثورة 26 سبتمبر، فالأسرة بلا شك تملك إرثا نضاليا ورمزية تتمثل في محمد علي عثمان، وهذا العلم النضالي يجر وراءه اسما لعبت أدوارا سلبية وإيجابية لكنها مؤثرة في واقع الناس في المديرية، أبرزهم عبدالرحمن محمد علي. وفي المقابل عندما تذكر بيت محمود فإنك تعود بذاكرتك إلى الأدوار البارزة التي قام بها الشيخ محمود عبدالحميد، فالأسرة هي الثانية تملك إرثا نضاليا واجتماعيا، كما أنها تملك رمزية تتمثل بالشيخ محمود عبد الحميد، الذي يأتي بعده أسماء بارزة ومؤثرة، أبرزهم رجل الدولة المعروف د.عبدالوهاب محمود والدكتور أمين الذي شغل مؤخرا محافظ تعز في ظروف بدأت غاية في الصعوبة، كما أن الحديث عن أسرة الشيخ عبدالرحمن أحمد بلا شك سوف تجعلك تعود بذاكرتك إلى التاريخ النضالي لهذا الشيخ لا سيما في ثورة 26 سبتمبر، حيث أقدم هذا الشيخ المجاهد والزاهد بحسه الوطني على تأسيس معسكر لواء السلام الذي تولى يومها الدفاع عن الثورة وساهم في فك الحصار عن صنعاء، فالأسرة هي الثالثة تملك إرثا نضاليا ورمزية في الذاكرة الوطنية بحجم الشيخ عبد الرحمن أحمد، وهذا الشيخ المتواضع تأتي من بعده أسماء بارزة ومؤثرة في مسار النضال، أبرزهم السياسي الزاهد والثائر، أحمد عبدالرحمن الذي عاش قريبا من الناس وفي قلوبهم، ومحمد صبر قائد وملهم مسيرة الحياة الرجالة إلى العاصمة صنعاء في ثورة 2011.
هذا الثلاثي الأسري المؤثر في المجال الاجتماعي وفي مخرجاته السياسية في المديرية وإن بدا في بعض المراحل يعيش حالة من التنافس البيني الحاد إلا أن العامل المشترك الذي جمع هذا الثلاثي هو أن هذه الأسر بنفوذها داخل مديرية المسراخ شكلت بقصد أو بدون قصد حاجزا يعيق انتشار تيار الإسلام السياسي لاسيما في مرحلة التعددية السياسية، حيث توزعت قيادات هذه الأسر بين أحزاب اليسار وحزب المؤتمر الشعبي العام، الأمر الذي يعني أنه في حال تغيرت الظروف كما هو حاصل اليوم على إثر الحرب لصالح تيار سياسي معين، فإن الهيمنة سياسياً على هذه المديرية لن يتحقق بمجرد السيطرة على إدارة المديرية أو إدارة الأمن أو حتى المرافق الحكومية، بقدر ما سوف يتحقق بتفكيك هذه المعادلة الاجتماعية وإلغاء دور هذا الثلاثي المؤثر في المجال الاجتماعي وفي مخرجاته السياسية.
وفي سبيل ذلك يعمل هذا التوجه على تشجيع النزق لدى بعض من عانوا عقد النقص في الماضي أو حتى تعرض بعضهم لنوع من القهر أو الكبت، وقد تحولوا في هذه الظروف إلى قيادات بلا تاريخ وبلا أخلاق في صفوف الشرعية، وذلك للاعتداء على رموز هذه الأسر، كما يحصل ويتكرر في الاعتداءات على أولاد الشيخ أحمد عبدالرحمن سابقاً، وكذلك ما حدث قبل أيام من إحراق لمنزل الدكتور عبد الوهاب محمود والدكتور أمين أحمد محمود، كل ذلك يحدث دون مبرر سوى توجيه رسائل ذات أبعاد سياسية واجتماعية.
المندفعون سياسياً نحو السيطرة والهيمنة دائماً يفكرون بعقلية الاجتثاث للآخر، وعندما يفكرون في خلق ولاءات جديدة على أنقاض ما هو قائم في الواقع الاجتماعي يقدمون على ضرب الرمزية التي كانت محصنة في المخيال الاجتماعي، ذلك ما فعلته مليشيات الحوثي عندما فجرت بيت الشيخ عبدالله الأحمر يومها كان المقصود من هذا الفعل توجيه رسالة قوية للمحيط الاجتماعي القبلي الذي هو الآخر فهم أن ضرب الرمزية المحصنة في المخيال الاجتماعي منذ عقود يعني حدوث تغيير في موازين القوى يستوجب التعاطي معه والرضوخ له.
وفي المقابل فإن ما يجري في المسراخ من إحراق للبيوت على يد جماعات مسلحة ومنفلتة هو نموذج آخر لهذا النوع من الجماعات التي تفكر بعقلية الاجتثاث والهيمنة، وإذا كان ما حدث في عمران قد تم في ظل تواطؤ الأجهزة الأمنية والعسكرية في صنعاء، فإن ما حدث في المسراخ تم في ظل تواطؤ الأجهزة الأمنية والعسكرية في تعز، وفي كل الأحوال فإن هذه المليشيات التي فجرت في عمران وأحرقت في المسراخ لا تتشابه في المنهج والسلوك، بل تتشابه في تحقيق الغاية من وراء هذه الأعمال السمجة والتي تتمثل في خلق واقع سياسي واجتماعي خاضع لسيطرتها ونفوذها بقوة السلاح المنفلت الذي يغتال كل يوم فرص بناء الدولة في اليمن.
*من صفحة الكاتب على (الفيس بوك)