كنا متعايشين في الجحملية من كل جنس وملة ومذهب، ولا بيننا شيء، ولا نعرف زيدي ولا شافعي ولا صاحب مطلع ولا صاحب منزل، كلنا أصحاب وأهل وجيران، نبتاع ونشتري في سوق واحد، وأفراحنا وأحزاننا ومشاكلنا واحدة، وكانت الجحملية طول عمرها بلد في حارة، لكن هرولة الحوثيين بأسلحتهم وأفكارهم العقيمة إليها قادها إلى البلاء المرير.. كما وأن تحريرها على يد مجاميع من النهابة واللصوص أحالها إلى خرابة وطعفر أبناءها وأهاليها المتآلفين إلى كل زوة من البلاد، وجعل في النفوس شروخاً اجتماعية كبيرة يصعب زوالها بسهولة.
عشت حياتي كلها في تلك الحارة الجميلة التي شكلت وعيي ومخيلتي، ومشيت في كل شوارعها وأعرف أزقتها وبيوتها ومحلاتها ودكاكينها وخصوصياتها ومعالمها وشبانها ورجالها وحكايات تكوينها الأولى كحارة عتيقة نابضة بالحياة ومتعايشة بسلام منذ سنوات طويلة.. واليوم بعد أربع سنوات من الحرب صرت أمشي في الشوارع المقفرة وأشعر بالغربة والوحشة وأسير بقدميّ على أطلال حارة، وكل شيء من حولي خراب ودمار ولا أستطيع الضحك ولا أستطيع البكاء وقلبي حزين على حارتي التي ما كانت تستحق كل هذا المصير القاسي.
ما هو شعورك عموماً عندما تشاهد بيتك الذي عشت وترعرعت فيه وهو مخرب، وجيرانك كلهم مش موجودين وبيوتهم مهجورة، والأماكن التي لعبت فيها وأنت صغير أصبحت مكب نفايات؟! ولا نبض للحياة في الشوارع ولا ماء ولا كهرباء ولا مجارٍ ولا زحام في الجولة اليتيمة، والليالي مظلمة وموحشة ولا تسمع غير أصوات الكلاب تنبح في الشارع وتتخاطف بمخالبها جثة منسية من أيام الاشتباكات الأخيرة في مشهد مخيف ومروع ولا يتكرر غير في أفلام الرعب!
بالنسبة لي ذلك أمر مؤلم للغاية وجعلني في صدمة كبيرة ألعن تلك الحرب الدينية المجرمة وتلك الأفكار الطائفية والمذهبية التي اجتاحت السلام الداخلي في ظرف وجيز، وأصبح كل ذلك التعايش القديم مجرد ذكرى قديمة لأناس كانوا هنا وأصبحوا اليوم مشردين ومطاردين ونازحين بلا مأوى وبلا ضمير إنساني يستشعر معاناة حارة تراكض الجن فيها من كل شق ونالها من الشرور مصير قاس يصعب وصفه في مقال على الطاير.
عادت الحياة بشكل نسبي بسيط جدا إلى الحارة ولم يعد إليها الأهالي، ومن هم متواجدون فيها صامدون في ظروف صعبة للغاية يقاومون كل المحن المحيطة بهم وسط خراب مهول في البنى التحتية والبنيان ويتعشمون الأمان من السلطة المحلية في محافظة تعز ولا يريدون شيئاً غير أن تبسط الدولة نفوذها وأن تعاملهم كمواطنين يمنيين دفعوا ضريبة كبيرة لأفعال صبيانية اقترفها في حقهم جميع الأطراف بلا استثناء، وما فيش حارة في اليمن كلها تعرضت للسرقة والخراب والدمار كما تعرضت له الجحملية.
وأدعو محافظ تعز الأستاذ نبيل شمسان، على أية حال، لتخصيص لقاء موسع مع أهالي الجحملية الذين صمدوا أثناء الحرب والذين عادوا إليها مؤخراً ويستمع إلى معاناتهم اليومية ليعرف حجم الكارثة التي تعيشها هذه الحارة الحيوية في قلب مدينة تعز الكبيرة التي هي بالنسبة إلى الجميع حضن أم رؤوم.