ما فيش إنسان عاش في الجحملية عموماً لم يمر من الجولة الصغيرة التي تتوسط الشارع العام، حيث الزحام اليومي وحركة السيارات والموتورات وباعة الرصيف على جنبات الطريق في الجولة التي كانت إلى وقت قريب هي قلب الجحملية النابض وعنوانها الأبرز.
ولكن جولة الجحملية اليوم يتيمة، لا زحام فيها ولا دكاكين ولا مطاعم ولا بوفيهات ولا باعة يفترشون الرصيف ولا صبريات يمشين في الشارع حاملات سلال الأجب ولا مارة كثر في الطريق ووحده "الهلالي" بائع الطرمبا الشهير ومطعم صغير وحمادي أبو الشعوبيا وعبد الجليل نجل محمد صغير يبيع الشعير في دكان صغير، ونجل غالب مخسوه يبيع قهوة القشر والشاي من دون زحام حول الكتلي، وفؤاد الذماري يبيع اللحمة البقري، وفرن الروتي ودكانين آخرين وجميع هؤلاء الصامدون يحاولون أن يعيدوا الحياة إلى شريان الجحملية المغضوب عليها.
متى ستعود الحياة إلى طبيعتها السابقة في حارة الجحملية؟ لا أحد يعلم! حي بأكمله لا يزال حتى هذه اللحظة مهجوراً إلا من بضعة من السكان المحليين وآخرين جدد نزحوا إليها وجميعهم أهال يعيشون أيامهم الصعبة بين بيوت مدمرة وأزقة مقفرة، والماء لا يزال مقطوعاً، والمجاري خربانة وطافحة في الشوارع.. والشوارع كلها مكسرة، والبيوت مسروقة، والليالي موحشة وتمشي في الجولة بعز الظهر وتسمع صوت وقع خطواتك في الطريق وكأنك كائن فضائي يمشي بين الركام أو لكأنك تعيش في مقبرة كبيرة يسير إليها بضعة من المكلومين في مهمة يومية لقراءة الفاتحة على موتاهم.
تحررت الجحملية من الحوثة قبل أكثر من سنتين ولم يعد إليها أهاليها المطعفرون في كل زوة من البلاد، ولم تعد إليها الخدمات الشحيحة من أصله، وكأن هناك من لا يريد لأهالي هذه الحارة العتيقة أن يعودوا إلى بيوتهم، ويفضلون بقاءها هكذا في حالة موت سريري إلى أجل غير معلوم، بينما أنا جالس الآن في الجولة مشتاق لكل أصحابي وأهلي وجيراني الطيبين، وحزين على ما حل بحارتنا الجميلة التي لم تعرف الموات يوماً، وتعايش الناس فيها من كل جنس وملة ومذهب.