قرأنا في هذا الموقع الإخباري قبل أيام، خبراً مثيراً للابتسام.. خبراً عن توافق مجموعة كبيرة من الفنانين والشعراء والملحنين، على أن يكون اليوم الأول من شهر يوليو يوما وطنيا للأغنية اليمنية، وسيكون هذا سنويا.. هذا جيد، وليته يكون جديا حتى النهاية، إذ لو عنينا وعنيت الحكومات اليمنية المتعاقبة برسم وتنفيذ مشروع ثقافي متكامل -والأغنية ثقافة- لاختلف حالنا عن ما نحن عليه اليوم.
وصل الأمر إلى إكراه اليمنيين على الامتناع عن الغناء في الأعراس، ومنع استخدام آلات الموسيقى، وتجريم الرقص، كما هو الحال في المحافظات التي تديرها الجماعة الحوثية.. قبل ذلك كنا نعتقد أن هذه المحرمات الجديدة لا ظل لها إلا في مناطق صغيرة قليلة العدد، سيطرت عليها جماعات إرهابية، تفقهت من الشيخ ابن باز أن الغناء تشبه باليهود والنصارى، ومجلب شتى صنوف الشر والفساد، وهو أيضا قرآن الشيطان ومزماره، ورقية الزنا واللواط.. على الرغم من أن لوط وقومه الشاذ جنسيا نشأوا في الصحراء وليس في حسيني لحج، أو روضة صنعاء، أو أهجر المحويت.
بعد أن تمكنت الجماعة الحوثية صارت على ملة ابن باز، مثلها مثل أي جماعة إرهابية، وزادت إلى ذلك أن الغناء الذي تصاحبه موسيقى، ورقص وفرح، عادة سيئة تتعارض مع التقاليد اليمنية الأصيلة، ومع الهوية الإيمانية، ومع المسيرة القرآنية، إضافة إلى أن مظاهر الفرح والسرور هذه كانت سببا في تأخير النصر، وتلحق الأذى بالشهداء وهم في قبورهم!
كارهو الحياة يسوقون هذه المزاعم لتبرير كرههم للجمال.. إذ إن الغناء من أقدم تقاليد الشعب اليمني.. شعب يغني ويرقص منذ كانت البشرية في مرحلة التوحش.. يغني وهو يفلح الأرض.. وحين يحصد الثمار.. يغني وهو في الحقل أو في الطريق، أو في البيت.. يغني وهو يرعي الأنعام.. يغني وهو يرفع الدلو من البئر، وهو يبني منزلا.. يغني في الأعياد، وفي الأعراس.. وفي كل هذه الحالات يعزف موسيقى من فمه وأنفه إذا كانت آلات الموسيقي غير موجودة بين يديه.. والمشهور عن مغنين وشعراء وملحنين أنهم يذهبون إلى الأرياف ليستمعوا أصوات البنائين والفلاحين، وهذا ما تعنيه عبارة: اللحن من التراث.. وأصوات الآلات الموسيقية ليس كلاما، بل هي لغة، مأخوذة عادة من أصوات مظاهر الطبيعة، هذه الأصوات لغات تستجيب لها النفس البشرية.. صوت المطر، هبوب الريح، خرير الماء، تغريد البلابل، نقيق الضفادع، هديل الحمام، صفير النسور، رغاء الجمال، نهيق الحمير.. وهلم جرا.
الغناء لم يفسد عقلا، ولا حرض على كراهية أو عنف.. لم يتسبب فنان يمني في صنع فتنة، أو كانت أغنية من أغانيه محفزا لحرب أو إرهاب، أو مناطقية، أو أي آفة مشابهة.. يستمع واحد منا إلى الأغاني كل يوم، ويبقى إنسانا، بينما شيخ دين يخطب خطبه واحدة فيحول إنسانا سويا إلى مجرم أو إرهابي!
محمد حمود الحارثي أمضى خمسين عاما في الغناء وتلحين الأغاني، وما يزال يطرب وهو في قبره، فهل تسبب هو أو أغانيه في تحويل آدمي إلى وحش، كما يفعل رجال الدين؟ لم يحدث البتة.. ومثل الفنان الحارثي، الفنان علي بن علي الآنسي، والفنان علي السمة، والفنانون أحمد عبيد القعطبي، محمد جمعة خان، محمد مرشد ناجي، أحمد بن أحمد قاسم، أيوب طارش، محمد سعد عبد الله، فيصل علوي، أحمد السنيدار، اسكندر ثابت، باسويدان، بلفقيه، با مخرمة، وأحمد فتحي. وغيرهم؟
فغنوا إذن يا أهلنا، دون شعور بإثم، ودون رهبة من حوثي أو موثي أو سلفي أو قاعدي.. زفوا العرائس والعرسان، فقد زفهم عبد الله عبد الوهاب نعمان، بصوت وعود الفنان أيوب طارش عبسي: رشوا عطور الكاذية، على العروس الغالية، وعوذوها بالنبي وادعوا لها بالعافية.. صفوا الصفوف.. دقوا الدفوف.. شلوا الزفوف العالية.. زفوا وحفوا للجميل، أحلى ورود الرابية... يكفي عريسك يا عروس، هذي العيون الساجية.
غنوا.. فقد تغنى الفنان أحمد عبيد القعطبي، بكعبة مكة كما يتغنى حبيب بحبيبته: مطوق بات على الخمائل، يسر صوته ويعلنه، ترك فؤادي العميد ذاهل، حرك من القلب ساكنه، شوقي إلى زينة الخلاخل، يهيم قلبي ويفتنه، ذي حسنها جامع الفضائل، والخال في الخد زينه... هذا القعطبي مذهل، غنوا معه وله: رسولي قوم بلغ لي إشارة، إلى عند المليح الحالي الزين، وهتلي من منى قلبي أمارة، لكي نعرف بها ما بيننا البين، وشاهبلك اذا جوب بشارة، وقلك مرحبا على الراس والعين.
اطربوا، كما يطرب الفنان محمد حمود الحارثي: وا حالية وا عذبة المقبل، وا شادية بالمنطق الربابي، وا مخجلة بدر السماء المكمل، وا فايقة للخرد الكعابي.. رقي لحالي يا مليحة الدل، يا زينة التطريز بالخضابي، وساعديني في سمر ومقيل، وطفي لظى قلبي برد نابي، وارثي لعاشق خاطره مبلبل، مشغول بأمر الحب والتصابي.. غنوا، الحارثي يغني: ما أَحلى حبيبي وما أاحسنه، كالغصنِ إِذا مالَ واِستوى، اللَّه صاغه وزينه، مِثل الغَزالة سوا سوا.
غنوا.. للفنان محمد مرشد ناجي ما يرطب القساة، ويقيم المعوج: علم سيري.. يا بن الناس حبيتك.. أراك طروبا.. واحب بحرك غزير.. جوب الفل قال الفن لي والتفنان.. وعليك سموني وسمسموني.. قالوا فمالك حين تراه تخجل، يصفر وجهك إن بدا وأقبل، وتستحي يوم تذكره وتفشل، يغيب حسك إن ذكر وتذهل.
غنوا.. الفنان علي بن علي الانسي قد غنى: وقف وودع حبيبي، واسبل اجفانه، ومس كفي، وورد بالحيا اوجانه.. أخذ قلبي وراح، وشق صدري بالأعيان الصحاح، يا طول همي!!
غنوا.. الفنان أحمد السنيدار قد غنى: واقبله في جبينه، واحاكي أهل المدينة.. يا شمس وقت الأصيل، من علمك تغرب، ومن سمح للسحب ما بيننا تحجب... ما أجمل الصبح في ريف اليمن حين يطلع!
غنوا.. هذا الفنان أبو بكر سالم بلفقيه قد غنى: وا نسيم السحر هل لك خبر، عن عريب بوادي المنحنى.. غنوا، والفنان أحمد فتحي يغني: يا مكحل طويل الهدب، يا مؤصل عريق النسب.
واستمعوا إلى الفنان علي السمة: اشهدوا لي على الأسمر، شل قلبي مني وأنكر.. اشهدوا لي.. اشهدوا لي.. اشهدوا لي.