بات استيلاء الحوثيين (جماعة أنصار الله) على مدينة مأرب وارداً.
اشتد الحصار على مأرب في مرحلة تبدو إيران مصرّة على جعل الميليشيا التابعة لها في اليمن تسيطر على المدينة ذات الأهمّية الاستراتيجية.
ثمّة نيّة واضحة لإنشاء دولة مستقلّة في شمال اليمن تدور في الفلك الإيراني.
يفرض مثل هذا التطوّر طرح سؤال في غاية الأهمّية.
هل قدر دول شبه الجزيرة العربيّة التعايش مع كيان سياسي، أقرب إلى قاعدة صواريخ وطائرات مسيّرة إيرانيّة في اليمن؟
يبدو مثل هذا السؤال مشروعاً في ضوء غياب الوضوح في سياسة إدارة (الرئيس الأميركي) جو بايدن التي لا تمتلك سياسة محدّدة تجاه المشروع التوسّعي لـ«الجمهوريّة الإسلامية».
يأتي غياب الوضوح الأميركي في وقت لم تعد إيران تخفي أن لديها جيوشها في المنطقة وأنّها مستعدّة لاستخدام هذه الجيوش لتحقيق أهداف سياسية، خصوصا في تعاطيها مع إدارة جو بايدن.
من بين هذه الجيوش، كما يقول مسؤولون في طهران، الحوثيون في اليمن و«حزب الله» في لبنان و«الحشد الشعبي» في العراق... والميليشيات المذهبيّة المختلفة التي تشارك في الحرب التي يشنّها النظام الأقلّوي في سورية على شعبه.
ليس معروفاً هل ساهمت الجولة التي قام بها مستشار الأمن القومي الأميركي جيك ساليفان في طمأنة دول المنطقة المعنيّة مباشرة باليمن، في مقدّمها المملكة العربيّة السعوديّة.
زار ساليفان السعوديّة ودولة الإمارات ومصر في محاولة واضحة لشرح الخطوط العريضة للتوجهات الأميركية في المنطقة في أعقاب الانسحاب من أفغانستان وسحب بطاريات صواريخ من السعوديّة.
ليس مفهوماً، في أيّ شكل، هل من استيعاب أميركي لمعنى وجود الكيان الحوثي في شمال اليمن؟، وهل بات مطروحاً أن تتدبّر دول المنطقة أمورها بنفسها بعيداً عن الحلف التقليدي بينها وبين الولايات المتّحدة؟
من بين أخطر ما تنطوي عليه السياسة الأميركية المعتمدة حالياً ذلك الاستخفاف بالحوثيين من جهة وبأبعاد سيطرتهم على جزء من اليمن من جهة أخرى.
اكتشفت إدارة بايدن فجأة، قبل أشهر قليلة، بلسان وزير الخارجيّة أنتوني بلينكن، أنّ هناك سبعين ألف أميركي يعملون في السعوديّة أو يقيمون فيها وأنّ الصواريخ الباليستية الحوثيّة تشكّل تهديداً لهؤلاء.
لم تفعل شيئاً في مواجهة هذا الخطر.
هذه إدارة تبحث عن تسوية مع الحوثيين (جماعة أنصار الله) ومع إيران من دون أيّ إدراك للنتائج الكارثيّة لمثل هذه التسوية في غياب ضمانات حقيقية وأساسيّة لدول المنطقة التي تعي تماماً أنّ أيّ رفع للعقوبات عن إيران سيوظّف في دعم جيوشها في المنطقة العربيّة.
إذا كان خيار الاستسلام أمام إيران خيار إدارة جو بايدن، فهذا الاستسلام ليس خياراً خليجياً، ذلك انّه سيكون من الصعب على دول المنطقة القبول بالهيمنة الإيرانيّة والرضوخ لها من جهة والتعايش مع الوجود المباشر لـ«الجمهوريّة الإسلامية» في اليمن من جهة أخرى.
مثل هذا الرفض للاستسلام أمام إيران يتطلب مقاربة مختلفة لموضع اليمن برمته.
تبدأ المقاربة بالاعتراف بأنّ «الشرعيّة» القائمة في اليمن ليست شرعيّة، لا لشيء سوى لأنّها عاجزة عن مواجهة الحوثيين.
يزيد من عجز هذه «الشرعيّة»، التي لم تعد فائدة من إعادة تشكيلها، كونها باتت تمثّل خير حليف للحوثيين.
هؤلاء يحققون يومياً تقدماً على جبهات القتال، خصوصاً في مأرب. يضيق الحصار أكثر فأكثر على مدينة مأرب التي تحوّلت إلى رمز يسعى «أنصار الله» إلى السيطرة عليه لتأكيد أنّ في استطاعتهم إقامة دولة قابلة للحياة تمتلك حدّاً أدنى من الثروات الطبيعية، من نفط وغاز، وميناء مهمّاً على البحر الأحمر هو الحديدة.
يغيب عن الإدارة الأميركية أنّ إيران تسعى إلى إيجاد موطئ قدم في شبه الجزيرة العربيّة كي يسهل عليها تطويقها من كلّ الجهات وكي تتمدّد أكثر في اليمن متى تسمح لها الظروف بذلك.
تكمن مشكلة الإدارة، التي رفعت الحوثيين عن «قائمة الإرهاب» حديثاً، في أنّها تتعامى عن خطورة ما يدور في اليمن وتأثير هذه الخطورة على دول المنطقة.
هناك في واشنطن من يتجاهل أنّ الحوثيين كانوا إلى ما قبل فترة قصيرة في المخا وأن إيران تباهت بأنّها أصبحت تسيطر على مضيق باب المندب الذي يتحكّم بالملاحة في البحر الأحمر مثلما تتحكّم بمضيق هرمز.
يخطئ كلّ من يعتقد أن إدارة بايدن مختلفة عن إدارة باراك أوباما الذي اختزل كلّ مشاكل الشرق الأوسط والخليج وأزماتهما بالملف النووي الإيراني.
يخطئ أيضاً من يعتقد أنّ لا وجود لقوى أخرى غير «الشرعيّة»، التي يمثلّها الرئيس المؤقت عبدربّه منصور هادي والإخوان المسلمون، قادرة على الدخول في مواجهة مع الحوثيين.
صحيح أن الحوثيين جزء من المعادلة اليمنيّة ولا يمكن شطبهم من هذه المعادلة، لكن الصحيح أيضاً أنّ التركيبة القبلية اليمنيّة لم تنته بعد تماماً.
كذلك، توجد قوى عسكرية في غاية الأهمّية استطاعت الصمود وإخراج الحوثيين من عدن ومن المخا ومواجهتهم على جبهة الحديدة.
هذه القوى التي تتجاهلها الإدارة الأميركية لا يمكن أن تبقى ساكتة إلى الأبد على الرغم من وجود هموم مختلفة لدى «الشرعيّة».
تتمثّل هذه الهموم في محاربة «المجلس الانتقالي الجنوبي» الذي يدعو إلى الانفصال والذي يسيطر عمليّا على عدن ومناطق جنوبيّة أخرى.
مع مرور الأيّام، يزداد الوضع تعقيداً في اليمن.
كلّ ما يمكن قوله في ضوء السياسة التي اعتمدتها إدارة بايدن أنّه يبدو مطلوباً قبول دول الخليج بأمر واقع في اليمن... أي أن يكون قسم منه تحت السيطرة المباشرة لإيران.
هل هذا خيار أم دعوة إلى الاستسلام؟
لا أجوبة نهائيّة عن مثل هذا النوع من الأسئلة قبل معرفة نتائج ما سيؤول إليه الوضع في مأرب حيث لا تبشّر التطورات الأخيرة بالخير.
كلّ ما يمكن قوله إنّ الرهان على «الشرعيّة» لم يكن رهانا في محلّه، خصوصاً أنّ الرئيس المؤقت لا يمتلك أي صفة قيادية وأنّ الإخوان المسلمين يمتلكون أجندة خاصة بهم تلتقي في أماكن كثيرة مع الأجندة الحوثية والإيرانية.
*نقلا عن صحيفة "الرأي" الكويتية.