لو الحب بدلاً عن الحرب، لو العقل بدلاً عن الاعتقال، لو القُبلات بدلاً عن القنابل، لو الرقص بدلاً عن القنص، لو النبيذ بدلاً عن المنابذة، لو ضم الخصور بدلاً عن ضم البنادق، لو الشّهقة بدلاً عن الصرخة.!
لو.. ولو.. ولو.. بدلاً عن.. وعن.. وعن.. لكنّا اليوم في طليعة العالم قبل الأول، بدلاً عن كوننا اليوم في مؤخرة العالم بعد الأخير.!
مقرفة هي رائحة البارود، وسعار المسلحين، وغطرسة الحمقى، وحِكَم وأمثال القبائل، ومواعظ تجار السلاح والدّين.. ومخيفة بحجم الرعب من السقوط المتسارع الذي لا يريد الوصول إلى قعرٍ، والانهيار المستمر الذي لا يريد أن يصل إلى نهاية.!
قل سنوات، سنوات قليلة في حساب الزمن، لكنها باهظة في حساب الكوارث والتحولات العاصفة، كانت الحياة مثقلة بالهموم والمتاعب التي تقصم الظهر، ولم نكن نتصور حتى أن نشعر بالحنين إليها ونصفها بـ"الزمن الجميل".
لكن هذا حدث.. بسرعة. كالانزلاق في كابوس، الحنين إلى الماضي ليس مدحا للماضي، بل هجاءً للحاضر، لم تكن الحياة في الماضي القريب مثالية، لكنها كانت لائقة بكائنات تحاول التفلت من ربقة الانحطاط العريق، وإيجاد موطئ قدم لها في خارطة الحداثة والمعاصرة.
بدأت الإرهاصات الأولى للكارثة قبل عقود.. بحجاب أسود لبسته أمي في سنِّ الأربعين، وببندقية سوداء اشتراها أبي من تاجر متجول.. من يومها أسودّ العالم برمته. بدأت الحرب بين أعداء الله "الجبهة الشعبية"، من جهة، والدولة، و"المطاوعة" "عصافير الجنّة"، من جهة أخرى..
كان ذلك في نهاية سبعينيات القرن الماضي، العلاقة بين شرشف أمّي وسلاح أبي من الوضوح بمكان، الحجاب والسلاح هما كلّ ما قدمه الإسلام السياسي لليمن، والإسلام السياسي أبرز أسلحة "حلف الناتو" في مكافحة "حلف وارسو"، خلال الحرب العالمية الباردة، التي قبلت اليمن ومناطق قليلة أخرى من العالم أن تشتعل فيها وتحارب بالنيابة عن الآخرين.!
من حينها والحرب في اليمن لم تتوقف يوماً ما، لم تهدأ لبرهة، فقط تتراوح بين السخونة والبرودة، الحرب الباردة أكثر قسوة وبطشاً واحتفالاً بالأهوال والأزمات من الحرب الساخنة.!
وفي جميعها كان الإسلام السياسي حاضراً، كسببٍ أو كطرفٍ ولاعبٍ رئيسي. الإخوان، الوهابيون، القاعدة وأخيراً الحوثيون.. وما زال الباب مفتوحاً على مصراعيه لمزيدٍ من الفصائل والمعارك والاندثار..
"حجاب" أمي، ومشقر قميص فتاة كنت أحبها، وقُبّة الوليّ، وقصص الشيخ الصوفي، وبقايا أشجار البن، وعطر "جنة النعيم"، وكوفية خاطتها لي أختي الكبرى .. قد تبدو مجرد ذكريات خاصة لا علاقة لها بالوطن الذي انزلق إلى الجحيم.
غير أنها الماضي الذي لا نحِنّ إليه لمجرد الحنين، بل للبحث عن منطق العدم ومنطلق الضياع، ومحاولة للخلاص، واللحاق بركب حضارة تسحق بوحشية ليس فقط من يتراجع إلى الوراء، بل حتى من يتوقف عن السباق.. نريد الدولة والحرية.. لنبدأ لا لننتهي.