فهمي محمد
الشعب السياسي وثقافة الوعي بفكرة الدولة الحاكمة
لم تخترع الدولة على فنجان من القهوة ولم تولد على طاولة من الحوار السياسي بمحض صدفة، بل هي نتاج صيرروة من التحولات السياسية والاجتماعية والثقافية.
فالدولة بالمعنى الذي ينصرف إليه مفهوم الدولة المؤسسية أو دولة المواطنة هي وليدة التجربة السياسية الحديثة في المجتمع الأوروبي، وهي بهذا المعنى تعبر عن تطور المجتمع الأوروبي ثقافيا وسياسيا وحتى اجتماعياً في مسارات متلازمة مثلت وبحق في مرحلة تاريخية رافعات حقيقية لمفهوم الدولة وديمومتها في أي مجتمع إنساني.
فالتطور المقصود هنا ينصرف أولاً، إلى وعي المجتمع الأوروبي بمخاطر السلطة القائمة في واقعه على الامتياز الشخصي أو على النفوذ المهيمن للأفراد أو الجماعات داخل جهاز السلطة، بمعنى آخر إن المجتمع الأوروبي بوعيه المتراكم والحداثي على مستوى التفكير السياسي أصبح غير قادر على تحمل مغامرات الأفراد في قيادة السلطة الحاكمة للمجتمع يومها.
وبهذا الوعي السياسي تحول المجتمع إلى شعب سياسي معني بالمسألة السياسية، الأمر الذي مكنه في معادلة صراعه مع السلطة من اختراع فكرة الدولة كفكرة سياسية عامة تتجاوز مفهوم السلطة الشخصية بحيث تجعل هذا الأخير محكوما بها، وبنفس الوقت تشكل حالة سياسية/ دستورية/ قانونية / ناظمة لحركة الشعب ومكوناته بحيث أصبح الفرد هناك لا يخضع لسلطة الأشخاص بذواتهم بل يخضع لسلطة الفكرة العامة (الدولة) التي تجد سندها ومبرر وجودها في سلطة النظام والقانون وسلطة الدساتير التي صاغتها مكونات المجتمع وإرادتهم الجمعية.
لهذا أصبحت الدساتير عقودا اجتماعية ناظمة لسلطة الدول التي اختفت فيها سلطة الأفراد كأشخاص متسلطين ونافذين داخل مؤسساتها.
وإذا كان هذا الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية قد خلق تطورا على مستوى الفكر السياسي الحديث بحيث تحول بموجبه المجتمع إلى شعب سياسي والسلطة الفردية أو حتى السلطة الحزبية إلى دولة بالمفهوم الوطني الضامن وتحول الحكام بنفوذهم السلطوي إلى موظفين حكوميين داخل مؤسسات الدولة يمارسون سلطة النظام والقانون في خدمة الشعب ولا يمارسون التسلط عليه، أو حتى النفوذ السياسي على أفراده، فإن هذا الوعي المجتمعي بذاته قد تحول بفعل التراكم النوعي المعرفي إلى سلطة مؤثرة في الواقع أقوى من سلطة الحاكم نفسه (رأي عام فاعل ومؤثر أو ما يطلق عليه سلطة أهل الفكر)، حيث تقف هذه السلطة بحزم في وجه أي محاولات هدفها العودة بالمجتمع إلى ظل الممارسات السلطوية للأفراد وحتى لسلطة الأحزاب المستبدة التي حازت على السلطة في زمن الإيديولوجيا والنظريات الثورية لا سيما الإنقلابية منها.
وفي مرحلة ثانية نجد انتشار هذا الوعي المجتمعي سياسياً في مستواه الأفقي قد أدى إلى تأصيل قيم الحرية والتسامح والحوار وقبول الآخر المغاير كقيم ثابتة ومتداولة كحتميات، وتأصيل ذلك ثقافياً في المجتمع، بل وتم تحويل تلك القيم المدنية إلى ديناميكية سياسية وثقافية فاعلة على مستوى سلوك الأفراد والجماعات.
بمعنى آخر تحولت تلك القيم الثقافية إلى نظام معرفي يضع المحددات داخل سلوكيات العقل السائد أو الفاعل في المجتمع بشكل عام، وحتى على النظام السياسي وهو ما فرض تطورا آخر في مفهوم الدولة الوطنية بالمعنى الذي ينصرف إليه مفهوم الدولة المدنية الحديثة، أي أن الوعي الاجتماعي تجاه المسألة السياسية في المجتمع الغربي ساهم للمرة الثانية في تطور هام في صيرورة الدولة الحديثة ليس على مستوى ممارسة السلطة والقرار بالمفهوم المؤسسي السابق من الزاوية الوظيفية للدولة الحاكمة، بل على مستوى مشروعية الحاكم نفسه وكذلك النظام السياسي بشكل عام داخل بنية الدولة وهو ما أدى إلى ظهور الدولة المدنية القائمة على مفهوم الديمقراطية والتعددية السياسية الحزبية التي عكست في المقام الأول ثقافة الشعب وتوجهات مكوناته المختلفة والمتعددة سياسياً وثقافياً وفكرياً، ما يعني أن الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية في أوروبا هو الذي حدد مفهوم الدولة في مسار تطورها التاريخي وفي صيرورتها المتحولة سياسياً ومدنياً من سلطة الأفراد القائمة على الامتياز الشخصي إلى سلطة الفكرة السياسية المتعالية دستورياً وقانونياً على الحاكم نفسه، ناهيك عن كونها قائمة في نفس الوقت على مفهوم العقد الاجتماعي الذي يعبر عن إرادة الشعب السياسي المحكوم ولا يعبر عن طموح الحاكم.
ففي المرحلة الأولى عالج الوعي المجتمعي مخاطر السلطة بعد أن اكتوى بنار سلطويتها الشخصية وبمغامرة الحكام المستبدين الذين أساءوا استخدام هذه السلطة العامة، وبهذه المعالجة تحولت السلطة إلى دولة حاكمة بالمفهوم الذي نناضل اليوم من أجله في اليمن وفي العالم العربي عموماً.
وفي الحالة الثانية عالج مشكلة الاحتقان والتدافع السياسي في المجتمع بتجذير وتأصيل مفهوم الحرية والعدالة والمواطنة والقيم والثقافة المدنية، بحيث انعكس ذلك على صيرورة الدولة الوطنية التي تحولت إلى الدولة الديمقراطية التي أصبحت بهذا التطور تعبر عن الواقع الثقافي الذي يعيشه الشعب السياسي.
{دولة مدنية} أكثر من كونها آلة صماء كانت تحكم المجتمع سياسياً وفي الحالتين كانت النتيجة اختفاء مفهوم التسلط في ممارسة سلطة الدولة، واختفاء ثقافة الاستبداد في سلوك الشعب السياسي الذي نفتقده في اليمن.
ومن هذا وذاك تكون المجال السياسي العام المفتوح ديمقراطياً أمام التدافع السياسي الحزبي وكذلك النظام المعرفي النابذ لثقافة العنف والتطرف بكل أشكالها وأيديولوجياتها التي يعاني منها واقعنا العربي في القرن الواحد والعشرين، ناهيك عن الواقع اليمني على وجه الخصوص.
المجتمع الذي يظل فاقدا للوعي المجتمعى تجاه المسألة السياسية كما هو الحال في اليمن، يظل دائماً مجتمعا محكوما يصفق لهذا الحاكم أو ذاك ويقاتل من أجل أن يحكم هذا الشخص أو ذاك، أما حين يتحول المجتمع إلى شعب سياسي يصبح هو الحاكم وليس المحكوم وهو مصدر السلطة، ما يعني أننا في اليمن ما نزال نخوض «معركة» أبجدية الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية، خصوصاً وأن مثل هذا الوعي المجتمعي المفقود هو المعني بأن يجعل منا اليوم قادرين على إحراق المراحل التاريخية بحيث نتحول معه على المستوى الاجتماعي والثقافي من مجتمع إلى شعب سياسي وعلى المستوى السياسي من سلطة إلى دولة.