فهمي محمد

فهمي محمد

تابعنى على

الدولة الوطنية وسؤال الجمهورية في اليمن

Saturday 27 August 2022 الساعة 04:39 pm

منذ ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م التي أعلنت للمرة الأولى قيام النظام السياسي الجمهوري في اليمن، وحتى عام 2022م، الذي أصبح فيه جميع اليمنيين أمام سؤال الجمهورية، نستطيع القول إنه خلال هذه الفترة المقدرة بستة عقود من عمر اليمنيين في العصر الحديث، وهي الفترة التي تميزت بغزارة الأحداث السياسية والصراع البيني الداخلي، إلا أنها في المحصلة النهائية أصبحت خالية من تراكم الوعي المجتمعي النوعي فيما يتعلق بثقافة الفكر السياسي الحديث، أي ثقافة الدولة والديمقراطية والوطن القابل للعيش المشترك، بعكس بقية الشعوب التي خاضت تجربة الحروب والصراعات السياسية ولكن ذلك دفعها بشكل إيجابي إلى مسألة الوقوف على سؤال المستقبل.

سؤال الجمهورية المخيف والمتجدد الآن في حاضر اليمنيين، وإن كان يمتد جذرياً -في طرحه السياسي والاجتماعي- إلى سبعينيات القرن الماضي خصوصا في شمال اليمن، إلا أنه ظل بدون إجابة سياسية حتى مع دخول اليمن الموحد عصر الألفية الثاني الذي أصبح شاهدا على قدرة الكثير من شعوب العالم على نجاعة إجاباتهم السياسية والاجتماعية القادرة على التعاطي الناجح تجاه أسئلة الفكر السياسي الحديث ومتطلبات الإنسان في هذا العصر، الأمر الذي جعل من سؤال الدولة والجمهورية والقبول بالآخر بالنسبة لهؤلاء مجرد أسئلة بديهية لم تعد محل خلاف لأنها تتعلق بمصالح الشعوب بعد أن أصبحت هذه الأخيرة هي مصدر السلطة وصاحبة السيادة الوطنية. 

هذا الامتداد المعقد والمتوارث من أحداث قرنيين بخصوص وجاهة سؤال الجمهورية الذي أصبح اليوم متشعبا أكثر من اللازم على المستوى السياسي والاجتماعي مع سيطرة مشروع الحركة الحوثية الانقلابية في الشمال، ناهيك عن سؤال «الجمهورية اليمنية» على المستوى السياسي الجغرافي الوحدوي بين الشمال والجنوب مع بروز مشروع الانتقالي في جنوب اليمن، لا يعكس حقيقة فشل اليمنيين جميعاً في تقديم إجاباتهم الناجعة، بما يعني إسقاط مشروعية طرح سؤال الجمهورية المركب على طاولة الحاضر فحسب، بل يعني أن هذا السؤال سيظل قائماً ومطروحاً على طاولة الأجيال المتعاقبة، طالما هو بمنطق الخصوصية اليمنية التاريخية الصراعية نتيجة طبيعية مترتبة على هزيمة مشروع الدولة الوطنية الديمقراطية منذ ثورة سبتمبر وحتى اليوم، برغم نجاح الفعل النضالي في صناعة الفرصة التاريخية السانحة أمام اليمنيين خلال تجربة الثورة والسلطة الممتدة خلال ستة عقود.

الفكر السياسي الحديث لا يجعل من فكرة الدولة والجمهورية مسألة سياسية متلازمة بالضرورة في أي مجتمع، أي ضرورة تحايث الوجود السياسي في الزمان والمكان لفكرة الدولة والجمهورية.

 على سبيل المثال بريطانيا ملكية وليست جمهورية لكن الدولة الوطنية الديمقراطية موجودة فيها منذ قرون.

 وعلى العكس من ذلك سنجد في العالم الثالث، جمهوريات عديدة خالية من أي وجود لمعنى الدولة الوطنية الديمقراطية، لكن خصوصية تجربة الثورة والسلطة في اليمن منذ سبتمبر وأكتوبر جعلت من فكرة الدولة وفكرة الجمهورية حالة سياسية تكاد أن تكون متلازمة، في ظل عدم وعي الكثير من النخب السياسية اليمنية بخصوص إشكالية هذا التلازم السياسي الذي تتطلبه فكرة التغيير تجاه الخصوصية اليمنية، سيما وأن حضور الدولة الوطنية الديمقراطية في اليمن سيجعل منها أي الدولة حالة سياسية واجتماعية وقانونية موضوعية ضامنة لاستمرار المشروع السياسي الوطني للجمهورية.

عندما اندلعت ثورة الـ26 من سبتمبر 1962م كان اليمنيون في شمال اليمن يعيشون في ظل حكم الملكية الإمامية التي تدعي حقها الإلهي في احتكار مقاليد السلطة السياسية والدينية.

وعندما تمكنت الثورة من إسقاط الملكية الإمامية لصالح النظام الجمهوري، كانت الجمهورية كمحتوى سياسي واجتماعي وحتى اقتصادي وثقافي لا تعني في واقع حال اليمنيين سوى "نجاح ثورة سبتمبر" في بناء كيان الدولة الوطنية الديمقراطية من نقطة الصفر، على اعتبار أن تجربة النظام الإمامي في شمال اليمن كانت تفتقد على جميع الأصعدة للحد الأدنى من أي وجود عصري يعبر عن شروط الدولة الوطنية.

وهذا الافتقاد الكلي في الشروط السياسية والاجتماعية الموضوعية لفكرة الدولة الوطنية يعود في الأصل إلى فكرة الإمامة المذهبية التاريخية الممانعة أيديولوجياً وميثلوجياً لفكرة الدولة الوطنية في شمال اليمن، أكثر من كونه يعود إلى طبيعة النظام السياسي الملكي الذي تأسس شكلياً في اليمن بعد أن تم التخلص من الوجود العسكري العثماني، ما يعني أن فعل التغيير الثوري في سبتمبر لم يدرك بشكل دقيق أن جذر المشكلة اليمنية لا يكمن يومها في قدرة الثورة على التعاطي الإيجابي مع جدلية التغالب السياسي والعسكري بين الملكية والجمهورية كأنظمة سياسية، وانتصارها لمسمى الجمهورية، بقدر ما يكمن جذر المشكلة في حقيقة افتقاد اليمنيين لوجود الكيان السياسي والاجتماعي والقانوني للدولة الوطنية وهو كيان قابل للوجود في ظل الملكية والجمهورية على حد سواء، كما هو الحال في بريطانيا وامريكا، الأمر الذي كان بالإمكان تأسيس كيان الدولة الوطنية بعد خروج العثمانيين (ولو في حده المقبول) في ظل سلطة الملكية التي حكمت كامل التراب الوطني في الشمال، لولا خضوع هذا الأخير لسلطة الإمامة السياسية والأيديولوجية (مشروع الأئمة السلاليين) الذي يمثل في واقع الحال أحد نماذج العقل السياسي الحاكم تاريخياً في اليمن.

 ما يعني في النتيجة الأولى أن إشكالية الممانعة السياسية والأيديولوجية لقيام الدولة الوطنية في عهد المملكة المتوكلية الهاشمية في الشمال كانت قائمة جذرياً مع فكرة الإمامة السلالية ومع سلطتها السياسية المذهبية وليس مع الملكية بحد ذاتها.

وهذا الإدراك لإشكالية الإمامة السلالية مع فكرة التغيير الوطنية في اليمن، لم يفطن إليه حتى رموز حركة 48 عندما ذهبوا في ميثاقهم المقدس إلى تكريس فكرة الإمامة السلالية تحت مبرر مبدأ الشورى، مع أن مبدأ الشورى النظري سوف يفقد دوره السياسي العملي، في ظل قدرة الإمامة السلالية على ادعاء حقها الإلهي في تولي مقاليد السلطة، الأمر الذي كان يعني استحالة قيام دولة المؤسسات، ناهيك عن الدولة الوطنية الديمقراطية في ظل الخصوصية السياسية والأيديولوجية للمملكة المتوكلية الهاشمية التي تأسست في شمال اليمن على مثلوجيا الإمامة السلالية وحقها الإلهي في تولي الحكم أي أن جدلية الممانعة والتغيير في ظل الملكية التي تأسست بعد خروج العثمانيين كانت تعني في الحقيقة أن فكرة الدولة الوطنية هي البديل لفكرة الإمامة السلالية، والعكس كان هو الحاصل.

لهذا كانت ثورة سبتمبر في الزمان والمكان ضرورية الحدوث ولازمة في اليمن، لكن السؤال الكبير يقول هل كان ثوار الـ26 من سبتمبر 1962م، ورجال سلطة الثورة يدركون إشكالية التغيير في الشمال والتي تعني الانتصار السياسي المستقبلي لفكرة الدولة الوطنية الديمقراطية على حساب نقائضها السياسية الموضوعية سواء في عهد الملكية أو الجمهورية؟ أم أن وعيهم السياسي خاض معركة الانتصار السياسي للجمهورية اليمنية على حساب الملكية المتوكلية وعلى بيت حميد الدين فقط، بما يجعل هؤلاء فقط خصوم الفكرة الثورية في شمال اليمن؟