فهمي محمد
الرئيس الحمدي وصناعة الفرصة التاريخية في شمال اليمن
في بلدان العالم الثالث التي تتميز في غالب الأحوال بقلة الوعي المجتمعي تجاه المسألة السياسية يصبح التغيير العمودي الذي يتحرك من رأس السلطة إلى قاع المجتمع هو الأكثر نجاعة في الواقع، والأكثر قدرة على تحقيق مسألة الانتصار للمستقبل.
ليس لأن هذا الإسقاط الفوقي يختصر المراحل التاريخية التي تقوم على ديناميكية التراكم النوعي في مسار التغيير السياسي والاجتماعي على المستوى الأفقي فحسب.
بل لأن فكرة التغيير في هكذا حال إضافة إلى مسألة إحراق المراحل التاريخية تتسلح بسلطة وطنية رادعة وليس بوازع الضمير فقط، وهذا ما وجد اليمنيون أنفسهم أمام حدوثه على إثر صعود الرئيس ابراهيم الحمدي إلى رأس السلطة الحاكمة في العاصمة صنعاء 1974م.
على سبيل المثال بعد استقلال شمال اليمن من سيطرة الوجود العثماني خضع شمال اليمن للعديد من السلطات الحاكمة على المستوى الوطني، إلا أن سلطة الدولة الوطنية ظلت هي السلطة الغائبة في حياتهم حتى في ظل النظام الجمهوري.
وعندما رفع رئيس هيئة الأركان الضابط عبد الرقيب عبد الوهاب مع رفاقه في قيادة الالوية العسكرية شعار "الجمهورية أو الموت" أثناء معركة حصار السبعين التي وضعت حداً فاصلاً لمعارك الدفاع عن الجمهورية، لم يكونوا تحت هذا الشعار يخوضون معركة الخلاص الأخيرة مع وجود الملكية الإمامة فحسب، بل كانوا يدركون أن الانتصار على الملكية أو على بيت حميد الدين يعني ضرورة الانتصار لمحتوى النظام الجمهوري (سلطة الدولة الوطنية) وليس الانتصار للقوات التي احتشدت داخل معسكر الجمهورية مع اندلاع ثورة سبتمبر.
وهذا ما شكل بعد ذلك أحد المضامين السياسية المستقبلية في أحداث أغسطس التي انفجرت داخل معسكر الجمهورية بعد هزيمة الملكية، وأدت إلى تصفية عبدالرقيب عبد الوهاب ورفاقه خصوصا.
وقد شكلت مآلات هذه الأحداث حالة انفراج سياسي وعسكري أمام زحف القبيلة السياسية الجهوية داخل أجهزة ومؤسسات سلطة الجمهورية، وهو ما توافق يومها مع التوجهات السياسية لدولة الجوار التي كانت داعمة لعودة الملكية الإمامية، إلى سدة الحكم في العاصمة صنعاء، بحيث تخلت هذه القوة الإقليمية عن دعم الملكية الإمامية واعترفت بالجمهورية العربية اليمنية في ظل تحالفها الجديد مع مشايخ وضباط القبيلة السياسية التي استلمت فعلياً مقاليد سلطة الثورة والجمهورية من بعد انقلاب 5 نوفمبر 1967م، واحداث اغسطس 1968خصوصاً بعد انسحاب القوات المصرية من شمال اليمن، الأمر الذي جعل من القبيلة السياسية سلطة جهوية تقليدية حاكمة في ظل النظام الجمهوري، ناهيك عن كون هويتها السياسية والاجتماعية -أقصد القبيلة السياسية- شكلت في كل الأحوال حالة سياسية واجتماعية عصبوية ممانعة لحضور فكرة الدولة الوطنية الديمقراطية.
هكذا كان هو حال المشهد السياسي للجمهورية العربية اليمنية، في عام 1970 حين أقدمت سلطتها الحاكمة على عقد اتفاقية المصالحة بين الملكيين المحاربين واللا جمهوريين الحاكمين، أو قل الجمهورين اللاثوريين هذا من جهة أولى، وبين سلطة صنعاء والمملكة العربية السعودية من جهة ثانية.
ما يعني أن اتفاقية المصالحة الوطنية كانت في الزمان والمكان الذي تمت فيه عملية التشطيب السياسي في مسألة التخلي عن عودة الإمامة وعن مشروع الثورة السبتمبرية في نفس الوقت.
لهذا ظل محتوى النظام الجمهوري مع انتصار الجمهورية على الملكية الإمامية قابلاً لطرح سؤال الدولة في وجه السلطة الحاكمة في صنعاء (سلطة القبيلة السياسية الحاكمة في ظل الجمهورية) وهو ما تصدت له "أي لسؤال الدولة" بطريقة مباشرة ثورة التصحيح التي قادها الرئيس الشهيد إبراهيم الحمدي في عام 1974م.
ما يميز ثورة التصحيح التي قادها الرئيس إبراهيم الحمدي في عام 1974 أنها تعاطت بشكل مباشر مع جذر المشكلة اليمنية في الشمال.
فلم تكن في حقيقة الأمر ثورة ضد حاكم محدد بعينه أو ضد نظام حكم محدد، أو ثورة ضد أيديولوجيا حاكمة، بل كانت ثورة تصحيح ضد واقع اللادولة في الشمال هدفها الانتصار في الحاضر والمستقبل لفكرة الدولة الوطنية في اليمن.
وهذا مكمن السر في مسألة تخليد الرئيس الحمدي في ذاكرة اليمنيين شمالاً وجنوباً مع اختلاف توجهاتهم السياسية والحزبية.
فالرجل رغم أنه حكم فترة قصيرة جداً إلا أنه استطاع خلال هذه الفترة الزمنية أن يلامس وجدانياً حاجة اليمنيين المفقودة تاريخياً (سلطة الدولة).
لهذا كان من الطبيعي أن يجد الرئيس الحمدي نفسه (أراد ذلك أو لم يرد) يخوض معادلة صراع حادة مع مشايخ وضباط القبيلة السياسية الجهوية التي بدأت مع ثورة التصحيح تفقد تدريجياً مقاليد سلطتها وحتى دورها السياسي في ظل الجمهورية لصالح سلطة الدولة التي بدت حاضرة سياسياً وقانونياً داخل الوجدان الشعبي.
بغض النظر عن بعض الأطروحات السياسية إلا أن سؤال محتوى الجمهورية بدأ مع ثورة التصحيح يفقد تدريجياً مشروعية طرحه السياسي على طاولة المستقبل وذلك يعود إلى حقيقة أن ثورة التصحيح بقيادة الرئيس الحمدي تعاطت ايجابياً مع الحلول الجذرية للمشكلة اليمنية (مشكلة غياب الدولة) وهو ما انعكس بشكل إيجابي على العلاقة بين شمال اليمن وجنوبه وكذلك بين السلطة والمعارضة في الشمال.
حتى مسألة الوحدة اليمنية بدت قابلة للتحقيق على أساس إيمان نظامي صنعاء وعدن بمشروع الدولة الوطنية الديمقراطية لولا عملية اغتيال الرئيس الحمدي في 1977/10/11م بحيث مثل هذا الاغتيال انتصارا لسلطة القبيلة السياسية على حساب سلطة الدولة التي لم تكن قد أكملت عامها الثالث في شمال اليمن.