بعثت الزيارتان اللتان قام بهما الوفدان السعودي والعماني إلى صنعاء موجة من التفاؤل لدى كثيرين، وتسرب عنهما ما قيل إنه مشروع اتفاق يبدأ بالتعامل العاجل مع القضايا الإنسانية التي تدفع البلاد كلها إلى قاع هاوية الفقر والمجاعة.
وفي الوقت نفسه هو خطوة للتخفيف من المعاناة التي يتكبدها المواطن وحده في تنقلاته بين المدن اليمنية وإلى الخارج، وكذا عودة النشاط للموانئ اليمنية ودفع المرتبات في عموم البلاد.
كان المؤمل أن يشكل اتفاق حول هذه المسألة خطوة مهمة تؤسس للخطوات التالية المرتبطة بالتفاوض السياسي بين ما صار يطلق عليهم المجتمع الدولي (أطراف الصراع)، ولكن كما كان الحال في المحاولات السابقة توقفت الاتصالات المباشرة وارتفعت التهديدات بالعودة للصراع المسلح بعد أكثر من 13 شهراً من الهدوء.
وعلى رغم أن إغلاق الطرقات بين المدن وخصوصاً مداخل مدينة تعز يمثل تعبيراً فاضحاً عن تدني الشعور بالمسؤولية الأخلاقية لدى جماعة "أنصار الله" الحوثية، فإنه تعبير عن رغبة غير إنسانية في تعذيب المواطنين وإهانتهم والاستخفاف بمعاناتهم اليومية من دون أن يكون لذلك أي مبرر معقول ومقبول.
إن العجز عن تلبية الشروط الموضوعية لإنجاز المرحلة الأولى إضافة إلى الشكوك التي تسيطر على أطراف الحرب، يضعان تعقيدات أمام الخطوات المطلوبة لبناء الثقة، وذاك مؤشر عن الصعوبات التي ستقف أمام الانتقال إلى المراحل التالية.
وعلى رغم أنني على قناعة تامة بأن بنود اتفاق المرحلة الأولى هي التجسيد الأمثل للمستوى الإنساني المتدني الذي أفرزته الحرب اليمنية، فكيف يمكن فهم أن يصبح تنقل الناس داخل اليمن وخارجها موضوع بحث؟
وكيف يمكن استيعاب حرمان موظفين عموميين تعمدت الحكومة الشرعية التوقف عن دفع مرتباتهم عقاباً لهم، لأنهم لم يفروا معها خارج مناطق سيطرة "الجماعة"؟ وفي الوقت ذاته الذي تخلت فيه حكومة الأمر الواقع في صنعاء عن مسؤولياتها تجاههم.
كما أنه غير مفهوم وطنياً التفاوض بين اليمنيين على تقاسم ثرواتهم الطبيعية بدلاً من الاتفاق على وضعها في وعاء واحد لإنفاق مداخيله في عموم البلاد.
ظاهرياً إن الشروط التي تضعها "الجماعة" مقابل الدخول في مسار المشاورات تبدو منطقية على السطح، لكنها في الوقت نفسه الذي تطالب فيه بتقاسم إيرادات الثروات الطبيعية المستخرجة في مأرب والجنوب، فإنها تستولي على كل الإيرادات التي تتحصل عليها في الشمال من الرسوم والضرائب وغيرها من الجبايات التي تسيطر على مداخلها وإنفاقها بعيداً من أية رقابة أو متابعة أو محاسبة.
كما أن "الجماعة" تقدم على فرض قوانين ولوائح الغرض الحقيقي منها تجفيف كل البيوتات التجارية المعروفة، وتمكين طبقة تجارية تسيطر عليها كلية، وكذلك الضغط على البنوك الوطنية الخاصة مما سيدفعها إلى إشهار إفلاسها، وهو ما ينبئ بوضع اقتصادي كارثي سيدفع بالقطاع الخاص إلى وقف كل نشاطاته التي يعيش منها ملايين المواطنين.
وإذا كان الوضع كذلك، فما المخرج؟
عند الجلوس إلى أية طاولة لإجراء مفاوضات تكون عناصر القوة على الأرض التي يختزنها الجالسون على الطاولة والأوراق التي يمكن المساومة عليها أو التنازل عنها، هي العامل الأول والمحدد لمخرجات اللقاء لأن أروقة الأمم المتحدة مجرد مساحات لا تمنح أحداً أكثر مما يمتلك.
ومن واقع الحال الراهن يتضح أن مجلس القيادة الرئاسي أعجز وأضعف من تشكيل كتلة سياسية موحدة بهدف مشترك يمكنه من التحدث بصوت واحد، لأن أعضاءه يحملون مشاريع مختلفة حد التناقض.
وعلى رغم محاولات رئيس "المجلس" المناورة بين الخلافات، إلا أنها باءت بالفشل بسبب تركيبة المجلس، ولأن شخصيته غير الحاسمة لم تمكنه من إعلان رؤية واضحة ومقنعة تجاه أزمات البلاد وفشل في إقناع الناس بقدراته.
الطرف الخارجي في الحرب الذي تمثله السعودية يرغب جاداً في إغلاق ملف الحرب في أقرب الآجال، والتفرغ لانشغالات التحولات الداخلية الكبرى الاجتماعية والاقتصادية.
كما يعمل على الانتقال من دور الطرف الداعم لـ"الشرعية" والمدافع عنها إلى دور أكثر شمولية يسهم في تقريب المواقف بين الأطراف اليمنية حتى يجري تثبيت المرحلة الأولى التي تمثل خطوة واحدة في مسار طويل نحو السلام.
وفي هذا السياق فإن "الجماعة" لم تتعامل مع التحول في الموقف السعودي بالحماس والإيجابية التي توقعتهما الرياض، وإن كانت وافقت على استقبال ممثليها بوساطة عمانية، لكن النتائج لم تأت بما توقعه الراغبون حقاً في وقف الحرب نهائياً والسبب أن صنعاء تريد تنفيذ بنود المرحلة الأولى كافة قبل الانتقال إلى المرحلة التالية.
في ظل مثل هذه الأوضاع فمن المؤسف أن "الجماعة" ألقت على كتفَي كل يمني كامل فاتورة الحرب، متخلية عن مسؤولية تقديم أي من الخدمات الأساسية، وامتنعت عن دفع المرتبات، وليس الوضع بأفضل في المناطق "المحررة" إلا على صعيد أن ضعف المؤسسات يسمح بشيء من الحريات العامة والخاصة.
وهكذا يقع اليمني بين مطرقة وسندان سلطتين لا تعنيهما حياة اليمنيين، بينما ينعم المسؤولون فيهما بمباهج الحكم وإن جاء على حساب المصلحة الوطنية.
ستظل العودة للمعارك احتمالاً وارداً لكنها ستكون بين اليمنيين وحدهم، وسيتفرج عليهم الإقليم والعالم من دون اكتراث، وسيظهر اهتماماً أقل عما ينتح منها وستتقلص المساعدات الإنسانية تدريجاً، حتى تظهر قيادات يمنية نزيهة ترى أن اليمن وأهلها أهم من أشخاصهم وأهلهم أو على أقل تقدير إدراك أن الوطن باق وهم راحلون.
*نقلا عن موقع "إندبندنت عربية"