نبيل الصوفي
اختفاء خاشقجي.. تذكير بكارثية جمعة الكرامة
أعتقد أن خروج ولي العهد السعودي والرئيس التركي سريعاً للتعليق على حادثة خاشقجي، محاولات للسيطرة على تدافعات البيروقراطية في دولتيهما تجاه كهذا أحداث.
تحدثا معاً بحصافة وإدراك للمسؤولية، يذكّرني حديثهما بمنطق الرئيس علي عبدالله صالح، في خطابه لاحتواء تطورات مقتل 50 يمنياً من شباب ثورتهم في جمعة إهدار كرامة الصراع السياسي في اليمن.
تلك الحادثة التي جعلتني التعليقات عليها من المنظمات الدولية وقنوات الإعلام وحتى الدول، أكفر بكل دعاوى الحياد والموضوعية.
لقد تبنّى الجميع، يومها، روايات التوتُّر ونفخ الكير، وعن سبق إصرار وترصُّد. وأنا هنا أقول سبق إصرار، لأخفف عني الشعور بأن كل النضالات الوطنية والإنسانية الحالمة بالعدل مجرد أمواج ساذجة، مثل طفل يسهل إثارته لإيذاء أمه بدعوى حرصه وحبه لها.
لقد تم تهييج كل عقل، وكأنها أول وآخر حادثة قتل تحدث وستحدث، وأن علاجها يقتضي إعلان الحكم في نفس اللحظة بأن فلاناً هو القاتل ودمه مهدور.
أتذكر أن قناة سهيل كانت تعلن، ونحن مازلنا في شارع الحدث، أن الحرس الجمهوري هو القاتل، وتبنى الجميع حكايات القناص، كأنَّ القتلَ يومها كان محتاجاً لقناص، ليس هناك تدافع وصراع قوي ودموي وإثارة وتصرفات رعناء وهمجية وتداخلات بلا حدود.
ستظل النبرة التي سمعتُ بها صوت الزعيم يومها بالتلفون باقية في ذاكرتي ما حييت، اتصلت به بعد أن بعدت أمتاراً قليلة من جولة المواجهة الملطخة بالدم.
خرجت من بين صفوف التوتر ورأيت شباباً يلاحق آليات الأمن القليلة التي كانت ترشهم بالماء وخلفها مسلحون مدنيون وعسكريون، وتوقعت أن ذلك الجو المشبوب بفجور الصراع وغرائزية التفكير قد يفضي لحرب شوارع لايمكن السيطرة عليها.
وكان صوته في أعلى درجات الهدوء، كرُبّان تكاد سفينته تتحطم، وكل من حوله يصرخون، وعليه إذاً التركيز، لأنه وحده من يمكنه تقرير المصير إن عاد يمكنه ذلك.
ذهبت أنا، يومها، للساحة مع أول خبر في قناة الجزيرة عن جيش النظام يقتل الثوار، ورغم كل المخاطر إلا أني قررت أن تكون زيارة فدائية، إما أنضم لحظتها للثورة المقتولة أو أقف ضدها، إن لم تكن كذلك، أو أجرّب طريقاً خاصاً أبرئ نفسي به أمام نفسي في لحظة الانهيار الوطني العام ذاك.
وقبل أن استطرد فيما حدث، سأذكر أني بعدها قررت الخروج من اليمن عجزاً عن فعل شيء، وسافرت قرابة العام أتابع مواجع بلادي من داخل فرنسا.
نعود لصوت الرئيس الصالح، والذي كان لقاؤه برئيس التجمع اليمني للإصلاح، يومها، وكانا قد وصلا لشبه اتفاق بمخرج يحفظ الدولة ويغير السلطة، والحادثة قد تدمّر كل ذلك.
قال لي: سأخرج لمؤتمر صحفي، وأعلن الحداد، كلهم أبناؤنا ولا نرضى بإراقة الدم.
وخرج للملأ معلناً الحداد وتنكيس العلم على دماء اليمنيين جميعاً، داعياً الأطراف كلها لإدراك الخطر، فالصراع اليوم في شارع واحد بصنعاء وإذا لم يتم حله حلاً سياسياً بما يرضي الجميع سيصبح في كل بيت في طول اليمن وعرضه.
وكان تفسيره للحادثة بسيطاً ومباشراً وواقعياً، ولايزال هو الأقرب للحقيقة، فأهالي الأحياء من المؤتمريين لن تقبل إغلاق منازلها من قبل ثورة الإصلاح والمشترك.
والتوتر يتصاعد، والسلاح موجود في كل بيت.
وبذات الروح الثورية العاجزة عن إدراك الخطر كانت الردود، واعتبرتها قيادات إصلاحية دعوة فتنة للحرب بين الثورة والأحياء المحيطة بها.
ولن أقول إن هذه تصريحات خائفة من الحل، وطامعة في الحكم، ولا راغبة في تأجيج الوضع.. سأقول فقط إنها كانت بسبب العجز عن رؤية المخاطر والوقوع في شرك التفسير الجائر للضرورات الوطنية وللتغيير وللصراع السياسي.
فأياً كان ما قد يقال عن هكذا أحداث، مهما بلغت دمويتها، إلا أنه يتطلب مسؤولية أعلى وليس قفزاً إضافياً للمجهول هو نفسه ملخص شعارات الحوثيين إلى اليوم "ما نبالي ما نبالي".
انهار مشروع الاتفاق السياسي الذي تحوّل بعد ذلك إلى مبادرة خليجية، وتأخر طويلاً، وكانت جريمة دار الرئاسة التي اعترف منفذوها أن من أسباب قناعتهم بها هي جمعة الكرامة، باعتبار أن "قتل الرئيس سيعصم دم اليمنيين الذين سيقتلهم دفاعاً عن دولته".
لقد انطلق قطار المهالك ولم يعد أحد قادراً على إدراك أن المحطة القادمة ستكون أسوأ، وأن الوطنية كل الوطنية هو في تطويق ما يحدث لا الجري لإحداث ما هو أكبر منه.
أياً تكون الجرائم، فإن تطويقها والفصل في أسبابها والتضحية بما هو أقل ضرراً لتجنب ما هو أكثر هو الحل، ولو كان ذلك القبول بنصف الحق ونصف النصر كي لاتخسر البلدان كل الحق وكل الوجود.
في النهاية هي صراعات سياسية وليست معارك حقوق وحريات مجردة.
بالأمس قرأتُ خطاب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، واليوم قرأت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوجان.. وأرى في خطابيهما محاولة جادة لتطويق مثل هكذا حادثة شنيعة، ليست شناعتها في اسم صاحبها، فجمال سياسي لطالما شهد مثل هكذا حوادث وانحاز لموقف سلطة بلاده تجاهها حقاً أو باطلاً.. ولكن في كونها حادثة تخص إنساناً ما، مثله آلاف يحدث لهم ذات الأمر ولايعرف بهم أحد، وقد يخدم الاهتمام العالي بهذه الحادثة البشر العاديين الذين لايكترث لهم أدعياء الحقوق والحريات حول العالم السياسي.
للسعودية ومواطنيها الأمان، كما هو لتركيا ولليمن ولكل كبد رطب على هذه المعمورة..
إن إنساننا في هذه المنطقة بحاجة لإيقاف مسار الرد على الخطأ بخطيئة، وعلى جريمة مفردة بالإجرام المتعدد..
أعتقد أن خروج ولي العهد السعودي والرئيس التركي سريعاً للتعليق على حادثة خاشقجي، محاولات للسيطرة على تدافعات البيروقراطية في دولتيهما تجاه كهذا أحداث.
تحدثا معاً بحصافة وإدراك للمسؤولية، يذكّرني حديثهما بمنطق الرئيس علي عبدالله صالح، في خطابه لاحتواء تطورات مقتل 50 يمنياً من شباب ثورتهم في جمعة إهدار كرامة الصراع السياسي في اليمن.
تلك الحادثة التي جعلتني التعليقات عليها من المنظمات الدولية وقنوات الإعلام وحتى الدول، أكفر بكل دعاوى الحياد والموضوعية.
لقد تبنّى الجميع، يومها، روايات التوتُّر ونفخ الكير، وعن سبق إصرار وترصُّد. وأنا هنا أقول سبق إصرار، لأخفف عني الشعور بأن كل النضالات الوطنية والإنسانية الحالمة بالعدل مجرد أمواج ساذجة، مثل طفل يسهل إثارته لإيذاء أمه بدعوى حرصه وحبه لها.
لقد تم تهييج كل عقل، وكأنها أول وآخر حادثة قتل تحدث وستحدث، وأن علاجها يقتضي إعلان الحكم في نفس اللحظة بأن فلاناً هو القاتل ودمه مهدور.
أتذكر أن قناة سهيل كانت تعلن، ونحن مازلنا في شارع الحدث، أن الحرس الجمهوري هو القاتل، وتبنى الجميع حكايات القناص، كأنَّ القتلَ يومها كان محتاجاً لقناص، ليس هناك تدافع وصراع قوي ودموي وإثارة وتصرفات رعناء وهمجية وتداخلات بلا حدود.
ستظل النبرة التي سمعتُ بها صوت الزعيم يومها بالتلفون باقية في ذاكرتي ما حييت، اتصلت به بعد أن بعدت أمتاراً قليلة من جولة المواجهة الملطخة بالدم.
خرجت من بين صفوف التوتر ورأيت شباباً يلاحق آليات الأمن القليلة التي كانت ترشهم بالماء وخلفها مسلحون مدنيون وعسكريون، وتوقعت أن ذلك الجو المشبوب بفجور الصراع وغرائزية التفكير قد يفضي لحرب شوارع لايمكن السيطرة عليها.
وكان صوته في أعلى درجات الهدوء، كرُبّان تكاد سفينته تتحطم، وكل من حوله يصرخون، وعليه إذاً التركيز، لأنه وحده من يمكنه تقرير المصير إن عاد يمكنه ذلك.
ذهبت أنا، يومها، للساحة مع أول خبر في قناة الجزيرة عن جيش النظام يقتل الثوار، ورغم كل المخاطر إلا أني قررت أن تكون زيارة فدائية، إما أنضم لحظتها للثورة المقتولة أو أقف ضدها، إن لم تكن كذلك، أو أجرّب طريقاً خاصاً أبرئ نفسي به أمام نفسي في لحظة الانهيار الوطني العام ذاك.
وقبل أن استطرد فيما حدث، سأذكر أني بعدها قررت الخروج من اليمن عجزاً عن فعل شيء، وسافرت قرابة العام أتابع مواجع بلادي من داخل فرنسا.
نعود لصوت الرئيس الصالح، والذي كان لقاؤه برئيس التجمع اليمني للإصلاح، يومها، وكانا قد وصلا لشبه اتفاق بمخرج يحفظ الدولة ويغير السلطة، والحادثة قد تدمّر كل ذلك.
قال لي: سأخرج لمؤتمر صحفي، وأعلن الحداد، كلهم أبناؤنا ولا نرضى بإراقة الدم.
وخرج للملأ معلناً الحداد وتنكيس العلم على دماء اليمنيين جميعاً، داعياً الأطراف كلها لإدراك الخطر، فالصراع اليوم في شارع واحد بصنعاء وإذا لم يتم حله حلاً سياسياً بما يرضي الجميع سيصبح في كل بيت في طول اليمن وعرضه.
وكان تفسيره للحادثة بسيطاً ومباشراً وواقعياً، ولايزال هو الأقرب للحقيقة، فأهالي الأحياء من المؤتمريين لن تقبل إغلاق منازلها من قبل ثورة الإصلاح والمشترك.
والتوتر يتصاعد، والسلاح موجود في كل بيت.
وبذات الروح الثورية العاجزة عن إدراك الخطر كانت الردود، واعتبرتها قيادات إصلاحية دعوة فتنة للحرب بين الثورة والأحياء المحيطة بها.
ولن أقول إن هذه تصريحات خائفة من الحل، وطامعة في الحكم، ولا راغبة في تأجيج الوضع.. سأقول فقط إنها كانت بسبب العجز عن رؤية المخاطر والوقوع في شرك التفسير الجائر للضرورات الوطنية وللتغيير وللصراع السياسي.
فأياً كان ما قد يقال عن هكذا أحداث، مهما بلغت دمويتها، إلا أنه يتطلب مسؤولية أعلى وليس قفزاً إضافياً للمجهول هو نفسه ملخص شعارات الحوثيين إلى اليوم "ما نبالي ما نبالي".
انهار مشروع الاتفاق السياسي الذي تحوّل بعد ذلك إلى مبادرة خليجية، وتأخر طويلاً، وكانت جريمة دار الرئاسة التي اعترف منفذوها أن من أسباب قناعتهم بها هي جمعة الكرامة، باعتبار أن "قتل الرئيس سيعصم دم اليمنيين الذين سيقتلهم دفاعاً عن دولته".
لقد انطلق قطار المهالك ولم يعد أحد قادراً على إدراك أن المحطة القادمة ستكون أسوأ، وأن الوطنية كل الوطنية هو في تطويق ما يحدث لا الجري لإحداث ما هو أكبر منه.
أياً تكون الجرائم، فإن تطويقها والفصل في أسبابها والتضحية بما هو أقل ضرراً لتجنب ما هو أكثر هو الحل، ولو كان ذلك القبول بنصف الحق ونصف النصر كي لاتخسر البلدان كل الحق وكل الوجود.
في النهاية هي صراعات سياسية وليست معارك حقوق وحريات مجردة.
بالأمس قرأتُ خطاب ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، واليوم قرأت تصريحات الرئيس التركي رجب طيب أردوجان.. وأرى في خطابيهما محاولة جادة لتطويق مثل هكذا حادثة شنيعة، ليست شناعتها في اسم صاحبها، فجمال سياسي لطالما شهد مثل هكذا حوادث وانحاز لموقف سلطة بلاده تجاهها حقاً أو باطلاً.. ولكن في كونها حادثة تخص إنساناً ما، مثله آلاف يحدث لهم ذات الأمر ولايعرف بهم أحد، وقد يخدم الاهتمام العالي بهذه الحادثة البشر العاديين الذين لايكترث لهم أدعياء الحقوق والحريات حول العالم السياسي.
للسعودية ومواطنيها الأمان، كما هو لتركيا ولليمن ولكل كبد رطب على هذه المعمورة..
إن إنساننا في هذه المنطقة بحاجة لإيقاف مسار الرد على الخطأ بخطيئة، وعلى جريمة مفردة بالإجرام المتعدد..