تدور منذ أسابيع معركة طاحنة على تخوم مدينة مأرب شرقي صنعاء بعد أن قررت جماعة الحوثي دخولها، وهي في تقديري الأهم في مسار الحرب المدمرة التي بدأت معالمها تتضح أكثر فأكثر، بعدما تمكنت القوات الحوثية من اقتحام مدينة عمران شمال العاصمة صنعاء في بدايات شهر يوليو (تموز) 2014، ثم مواصلة مسيرتها نحو العاصمة صنعاء والاستيلاء على المعسكرات داخلها في 21 سبتمبر (أيلول) 2014.
حين استطاعت تنفيذ مخطط الاستيلاء بالقوة على السلطة حتى بعد التوقيع على ما عُرف بـ "اتفاق السلم والشراكة الوطنية" الذي منحها حق المشاركة في الحكم بعد قبول كل القوى السياسية بشروطها.
لم يكن مفاجئاً للعارفين بتفاصيل الخريطة الاجتماعية والسياسية أن جماعة الحوثي لن تقتنع بالسيطرة على مركز محافظة الجوف المتاخمة لمدينة مأرب بدايات شهر مارس (آذار) 2020، وإنما كانت مجرد محطة في تقدمها نحو مدينة مأرب التي تضم مخزوناً كبيراً من النفط والغاز، وأيضاً أكبر محطة إنتاج كهرباء بواسطة الغاز، تغطي جزءاً كبيراً من حاجات الطاقة في المحافظات اليمنية.
وكانت الجماعة تدرك أيضاً أهمية مأرب الاقتصادية والمالية كمصدر للحصول على مداخيل كبيرة تُيسّر لها الانفاق على مشروعها السياسي الذي تقول إنه يستند إلى شعارَي "مقاومة العدوان" و"الدفاع عن الوطن وسيادته"، لكنها في الوقت ذاته تتجاهل أن المدينة تضم أكثر من مليونَي مواطن يمني لجأوا إليها هرباً من آثار الحرب، وبدأوا حياة جديدة في ظل بيئة هادئة نسبياً أتاحت ازدهارها وتحويلها إلى واحة استثنائية في محيط من الفوضى والاضطرابات.
في ظل هذه العوامل، كان غياب وسلبية "الشرعية" يخيمان على المشهد الذي لم يكن ضبابياً، بل بعكس ذلك كان الكل يتحدث عن أهمية حماية مأرب وسكانها أو على أقل تقدير التوصل إلى تفاهمات قبلية تلبي، في ظل غياب الإرادة والقدرة السياسيتَين، جزءاً من طلبات جماعة الحوثي الحصول على حصة من الثروة والطاقة الكهربائية، ورفع الحصار عن ميناء الحديدة ومطار صنعاء، وفي الوقت ذاته تسمح بحماية المدينة من هجوم ظل يلوح في الأفق منذ وقت طويل.
ولم يكن مدهشاً أو مستغرباً تباطؤ الحكومة وعدم التفاتها إلى حيوية استباق الأمر والاستعداد له، إما بتقوية الجبهة العسكرية أو العمل السياسي الذي يبعد شبح الدماء والدمار عن المدينة، لكن الحكومة، كما اعتدنا، لم تقم بأي من هذين الأمرين، بل اكتفت بنداءات الاستغاثة الموجّهة إلى التحالف العربي والمجتمع الدولي، وبيانات تكررت بلغة من الغرور وادعاء القدرة على تحقيق الانتصار، من دون بذل أي جهد فعلي في الميدان.
لست خبيراً عسكرياً يمكنه وضع احتمالات النصر أو الهزيمة لأي من الطرفين، لكني أستطيع القول جازماً بأن أي الاحتمالين سيترك أثراً مدمراً اجتماعياً وسياسياً، وسيفاقم تمزّق النسيج الوطني، ولن تكون المعالجة متاحة من دون المرور على جثث القتلى من الجانبين، والدمار الذي أحدثته المعركة الشرسة، يُضاف إليها ما حدث في بقية أرجاء اليمن منذ بدايات حرب "استعادة الشرعية" في مارس (آذار) 2015.
وسيبقى السؤال الذي ستتضح إجابته بعد انقشاع الغبار عن أرض مأرب، ماذا بعد؟
ارتفعت أخيراً الأصوات الداعية إلى توحيد الصفوف لدعم المدافعين عن مأرب، وتوجيه جهود كل القوى التي تؤمن بـ"الشرعية" لمساندتها في المعركة، وهي نداءات نابعة من شعور بالخطر المحدق وتأثيرات سقوط المدينة، ومعظمها موجه إلى الرئيس عبدربه منصور هادي، القائد الأعلى للقوات المسلحة، ونائبه الفريق علي محسن الأحمر.
وأستغرب من أن كثيرين ممن يحثونهما تناسوا أنهم كانوا من أكثر المتحمسين والمؤيدين لهما من دون تحفظ طيلة السنوات الخمس الماضية، متغافلين عن أن "الشرعية" بأكملها أُديرت خطأً قبل مارس (آذار) 2015 وبعده، ولم يرتفع صوت أحد من هؤلاء للمطالبة بتصويب أدائها الرخو منذ البدايات، وتفشى الفساد الذي جعل الناس تراها عاجزة عن تقديم أي نموذج يستحق الدفاع عنه، عدا استجداء المجتمع الدولي لنجدتها وتمويلها، بينما هي غير قادرة على تقديم ما يمنحها الاحترام والتقدير والمساندة.
لقد أثبتت المعركة الدامية المدمرة في مأرب أنها نتاج طبيعي لتراكمات التراخي والابتعاد عن المصلحة الوطنية، وفي الوقت ذاته التركيز على المصلحة الخاصة واللهث وراء المغانم الشخصية.
ولا أشكك في وطنية أي منتسب للشرعية، لكني على يقين بأن القادرين منهم على إيصال كلمة الحق تخاذلوا مبكراً وتباطأوا في الإعلان عن موقف جاد، ولم يستذكروا الأخطار إلا حين أصبحت داهمة وصار تجنبها مكلفاً ودامياً.
سأكتفي هنا بما يقوله عدد من أعضاء مجلس النواب، كنموذج للتكاسل والتهرب من المسؤولية، وهم محقون في كلماتهم، لكني مع كثير من المواطنين نسألهم، أين كنتم طيلة الفترة الماضية بعد تأمين مرتباتكم بأثر رجعي، والمكافأة السخية التي حصل عليها كل عضو قبل وبعد اجتماعكم اليتيم في أبريل (نيسان) 2019 بسيئون، أي منذ ما يقارب السنتين؟ وكم عضو منكم عاد بعدها إلى الداخل ليعيش مع الأحياء من ناخبيه؟ وحين يحصل المواطنون على الإجابات الصادقة، سنعرف جميعاً أسباب هذه الكارثة التي تحيط بمأرب اليوم، وأدعو الله ألا تنهار جبهتها وألا تمتد إلى ما هو أبعد منها.
لقد حان الوقت الذي يجب فيه على كل يمني في الداخل والخارج أن يفهم أن مأرب ليست آخر المعارك التي تستنزف كل اليمنيين، ما لم يتراجع الجميع عن اعتبار السلاح وسيلة وحيدة لتحقيق الطموحات، وأكرر ما أقوله دائماً، إنه من الواجب الوطني على جماعة الحوثي أن تثق في أنها لن تتمكن من السيطرة على اليمن ولا حكمه كما ترغب، وما لم تدرك ذلك فإنها ستواجه مصيراً لا يتمناه أحد لمؤيديها اليمنيين، لأن دورات الدم ستستمر لعقود طويلة إذا لم تعد إلى القبول بلغة الحوار منهجاً ووسيلة وغاية.
ومن المحزن مشاهدة صور جثث أطفال تم الزج بهم في معركة لا طائل منها سوى تراكم الأحقاد وإطالة مدى الحرب العبثية التي تدمر كل أمل قريب وبعيد في عودة كل أسرة إلى بيتها وقريتها، ولعل صور النازحين إلى مأرب هرباً من حرب دهمتهم في قراهم، فصاروا ضحاياها مجدداً ليبدأوا رحلة نزوح إلى صحراء جديدة لعلهم يجدون أماناً صار كل يمني يبحث فيه عن إنسانيته واحترامه داخل اليمن.
أخيراً، ليس من مخرج سوى وقف الحرب رحمة بالأطفال اليتامى والأمهات الثكلى والكهول الذين ضاقت بهم كل بقعة أرض يمنية، وكانوا يرون في مأرب ملجأهم الأخير قبل أن يعودوا لتفقد مَن تبقى من أسرهم ومساكنهم وقراهم.
*نقلا عن اندبندنت عربية