أورد الفيلسوف كارل بوبر في كتابه (أسطورة الإطار) حكاية حكاها المؤرخ اليوناني هيرودوت في الكتاب الثالث من تاريخه.. الحكاية مؤداها أن الملك الفارسي داريوس الأول (مات سنة 486 قبل الميلاد)، دعا المهاجرين الإغريق في بلاده، ليسألهم عن الثمن الذي يقبلون به كي يأكلوا لحوم آبائهم الموتى، ويقلعون عن عادتهم من حرق جثامينهم؟ فردوا عليه بالقول إنه لا شيء ثمين على هذه الأرض يمكن أن يغريهم بأكل موتاهم.. ثم استدعى الكالاتيين الذين يأكلون لحوم موتاهم، وسألهم -بحضور الإغريق ومترجم- عن الثمن الذي يشترطونه لكي يحرقوا جثامين موتاهم بدلاً من أكلها، فأظهروا التقزز، وتمنوا على الملك داريوس ألا يذكر مثل هذا السلوك الشنيع أمامهم مرة أخرى.
وسواءً صحت الحكاية، أم كانت أسطورة، وبغض النظر عن نوع العبرة التي أراد الملك أو هيرودوت من الحكاية حملها، فهي ترينا أن كل جماعة –وخاصة الدينية منها- تستحسن عادتها أو مذهبها أو طريقتها، وتعتبرها صحيحة حتى لو كانت تتعارض مع العصر، وتصادم العقل والأخلاق والعلم والذوق، بينما ترى أن الجماعة الأخرى مخطئة وعادتها ومذهبها وطريقتها فاسدة.. وفي الحكاية أو الأسطورة المشار إليها أعلى، رفضت الجماعة الإغريقية قبول أي ثمن مقابل أكل موتاها، وتخليها عن حرق جثامينهم، بينما لم تقبل جماعة الكالاتيين بأي ثمن لتخليها عن أكل موتاها، وحرقهم بدلاً من ذلك، ودلالة الموقفين المختلفين تكاد تكون واحدة، وهي أن الجماعات لا تتخلى عن ما ألفته حتى لو حصلت على أثمن العروض، فضلاً عن أن التفاهم بينها عسير المنال حتى لو كان بينها مسهل أو مترجم.
السؤال الكبير: لماذا بقيت المذاهب حية إلى اليوم على الرغم من أنها نشأت قبل ألوف السنين؟ ببساطة لأن كل فرقة أو جماعة أو طائفة تعتبر مذهبها صحيحاً.. وهنا أيضاً سؤال مركب: ما الذي جعله صحيحاً؟ وكيف يمكن أن تعتبره صحيحاً، وهو الذي يوجب عليها الالتزام بشعائر تتعارض مع العلم والقيم الإنسانية، ويستقبحها العقل، وتتصادم مع حقوق الإنسان، وتعيق تقدم المجتمع؟
نعتقد أن للمسألة أسباباً أخرى.. إن توجيه النقد للتراث، بما في ذلك الخرافات الدينية، أمسى قريناً للزندقة والتجديف والإلحاد.. حرية الرأي تعني حرية الكفر.. حقوق الإنسان سلعة أنتجتها الحضارة الغربية، ولا يجوز تداولها في الأسواق الإسلامية.. الحوار بين المختلفين جيد، لكن ليبقى المختلفون على ما هم عليه، فلا ينبغي أن يأخذ هذا من ذاك، ولا أن يؤثر هذا في ذاك.. الإسلام هو الحل، لكنه ليبقى كما هو إسلام السلف الصالح، إذ لم يترك الأولون للمتأخرين شيئاً.. الاجتهاد في الشريعة جائز، بل واجب، ولكن الاجتهاد لا يكون مع وجود النص، ولا ندري ما القيمة الذي سيأتي بها اجتهاد ليس موضوعه نص؟ إذ النص هو موضوع الاجتهاد.
قبل سنوات عقد فقهاء مسلمون مؤتمراً في ماليزيا، كان موضوعه الرئيسي الاختلاف في التقويم الإسلامي.. فقد يبدأ الباكستانيون صيام رمضان يوم الأحد، بينما يصوم العماني يوم الاثنين، وربما سبق إلى ذلك المغاربة فصاموا يوم السبت، وكل قوم يدعي أنه في تلك الليلة رأى الهلال.. فماذا قرر الفقهاء في مؤتمر ماليزيا بهذا الشأن المهم؟ سنرى في المقال التالي.