محمد العلائي
نحن أكثر حاجة للآخرين من حاجتهم إلينا
من المحزن الاعتراف بأننا نحن اليمنيين أكثر حاجة للآخرين من حاجتهم إلينا.
هناك دائماً أسباب قاهرة لا نملك معها إلا أن نسايس ونوادع الممالك والدول الكبيرة ونداريها، حتى في أوج قوتنا ووحدتنا الداخلية، فكيف ونحن في أضعف وأوهن حالاتنا!
أتذكر عبارة عميقة الدلالة للمؤرخ الدمشقي ابن فضل الله العمري، الذي عاش بين 1300 و1384 ميلادية، وعاصر الدولة الرسولية في اليمن، يقول فيها: "وصاحب اليمن يهادي صاحب مصر ويداريه لمكان إمكان التسلط عليه من البحر والبر الحجازي".
من المهم أن نتعرف على السياق الذي وردت فيه هذه العبارة، وهو أن العمري في كتابه "مسالك الأبصار في ممالك الأمصار" روى واقعة عجيبة تعرض خلالها من وصفه العمري بـ"صاحب اليمن"، وهو السلطان الرسولي علي بن داوود بن يوسف بن رسول (توفي 1363)، للاختطاف أثناء وجوده في مكة لأداء الحج، من قبل جنود مصريين ثم قاموا باصطحابه إلى الديار المصرية.
الواقعة التي استرعت اهتماما كثيرا من المؤرخين غير العمري، جرت في زمن حاكم مصر حينها السلطان المملوكي الناصر أبي المعالي محمد بن قلاوون (توفي عام 1341م)، ويقال إن عملية الاختطاف جاءت على خلفية شيوع أخبار عن نية الرسوليين (أصحاب اليمن) منازعة المماليك (أصحاب مصر) على النفوذ في مكة والحجاز.
المؤرخ المصري المقريزي يتحدث بالتفصيل عن الواقعة.
نفهم من رواية المقريزي أن الركب المصري ارتابوا بوجود مؤامرة مبيَّتة بين السلطان علي بن داوود للسيطرة على مكة بالاشتراك مع أحد الأشراف ويدعى "ثُقبة" كان طامحاً لانتزاع إمارة مكة من أخيه "عجلان"، وهذا الأخير كان حليفاً لمماليك مصر.
وهكذا نشأ مناخ من الشك بين حجاج اليمن والركب المصري، تحول الشك إلى عراك عنيف (في يوم منى) انهزم فيه جنود الأمير المملوكي المصري بزلار "هزيمة قبيحة"، كما يقول المقريزي، فأقبل الشريف عجلان بجيش كبير "واستمرت الحرب إلى العصر"، انتهت بانكسار جيش اليمن "وقتل منهم جماعة، وقُطع دهليز المجاهد، وقُبض عليه، ونُهبت أثقاله"، (المقريزي، الذهب المسبوك، ص146).
في البداية يذكر المقريزي أن خاطفي السلطان الرسولي عاملوه باحترام وأكرموه. بعد الوصول إلى مصر، يقول المقريزي: "وصُعد به إلى القلعة مقيداً في يوم الخدمة، وأوقف تجاه النائب.. الخ الخ".
أطلقوه بعد شهر أو شهرين، لكنهم لحقوا به إلى منتصف الطريق بعد وشاية جديدة، وأعادوه إلى القاهرة مكبلاً وعنفوه ثم أكرموه مرة أخرى وأطلقوه بعد فترة ليست محددة، ورجع إلى اليمن "وقد ضبطت له أمه المملكة، وأقام بها حتى مات سنة تسع وستين وسبعمائة"، كما يقول المقريزي.
الغريب أن مؤرخ الدولة الرسولية المعروف بالخزرجي ينقل خبر هذه الحادثة باقتضاب شديد وبرود: "فلما كان يوم الثاني عشر ركبوا (يقصد المصريين) بأجمعهم وانتهبوا المحطة على حين غفلة وأحاطوا بمخيم السلطان وهو في جماعة قليلة فرأَى السلطان أنه إن قاتل قتل هو ومن معه لقلتهم وكثرة العدو فبرز إليهم وسأًلهم أن لا يعترضوا أحداً من الناس ففعلوا وساروا بين يديه إلى محطتهم مرجلين وهو على بغلة على ما يجب من التبجيل والتعظيم وضربوا له خادماً خاصّاً فأنزلوه وسأَلوه أن يصطحب من غلمانه من شاء فاختار الأمير فخر الدين زياد بن أحمد الكاملي وتوجه معهم إلى الديار المصرية".
لا يذكر الخزرجي شيئا عما حدث للسلطان بعد ذلك، سواءً في الطريق أو في مصر، وإنما ينتقل إلى الحديث عن المراسلات التي جرت بين السلطان من محبسه في مصر وبين رجال دولته في تعز، مشيراً إلى الاحتفالات في تعز وزبيد كلما بلغهم خبر جديد عن سلطانهم الأسير، إلى أن علموا أنه في طريقه إليهم فتجهزوا لاستقباله.
عبارة المؤرخ العمري الدمشقي بداية المقال تعيد إلى الأذهان عبارة ذات مغزى للمؤرخ الزيدي يحيى بن الحسين بن القاسم، من القرن الحادي عشر الهجري، تعليقاً على مقترحات طائشة في حينها بمساعدة أحد أشراف مكة ضد العثمانيين، تقول العبارة: "صاحب اليمن لا ينبغي له إلا الموادعة أو الاقتصار على اليمن لا غيره..."، (يحيى بن الحسين بن القاسم، يوميات صنعاء في القرن الحادي عشر الهجري، ص208).
الفرق أن "صاحب اليمن" في عبارة العمري هو السلطان علي بن داوود بن يوسف بن رسول، وفي عبارة يحيى بن الحسين هو الإمام الزيدي أحمد بن الحسن بن القاسم الذي تولى بعد عمه الإمام المتوكل إسماعيل.
في التاريخ المعاصر، كان الرئيس علي عبدالله صالح أحد القادة اليمنيين القلائل الذين أدركوا بعمق هذه الحاجة إلى موادعة ومهادنة الخارج، إما لدفع الضرر أو لجلب النفع أو لأجلهما معاً.
ويعبّر المقطع التالي من خطاب ألقاه صالح في ختام المؤتمر العام الأول للمؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982م، عن تصوره لما ينبغي أن تكون عليه السياسة الخارجية لبلد يعيش ظروفا كالتي يعيشها اليمن:
"لم نرغب في العداء مع أي قُطر سواء أكان شقيقا أو أخاً قريباً أو بعيداً ولم نرغب في عداء أي دولة صديقة كانت عظمی أم صغرى لأنه رحم الله امرأً عرف قدر نفسه.. شعبنا تخلف كثيراً وحُرم كثيراً من التعليم، من الخدمات، من كل شيء، فنحن نسعى ونبذل جهودنا لتحسين علاقاتنا مع كل الأشقاء والأصدقاء، ومن أجل تنمية بلادنا فإن سياسة بلادنا الخارجية سياسة متميزة وجيدة مع كل الأقطار. لم يكن لنا قطر شقيق معاد أو دولة صديقة معادية، بل علاقتنا مع الجميع جيدة ومتوازنة.. ولكن التوازن لا بد له من رديف جماهيري أن يحافظ على هذا التوازن، أن لا نحمل مسئولية توازن السياسة الخارجية رئيس الدولة أو الحكومة أو وزارة الخارجية أو السفير، لكن كلنا سفراء، كلنا نصنع السياسة الخارجية، كلنا مسئولون عن السياسة الخارجية".
وهكذا.. طالما واليمن في وضع داخلي -سياسي واقتصادي وعسكري وصناعي وعُمراني- تحتاج معه إلى سياسة الموادعة والمهادنة، وإلى التفاعل السلمي الإيجابي مع الخارج، فالفضيلة الوطنية تكمن في الاستجابة الحكيمة لهذه الحاجة لا في تحديها أو إنكارها بغطرسة باهظة الثمن.
عندما يتغير الوضع الداخلي الذي يفرض هذه الحاجة، بوسعكم أن تحدثونا حينها عن سياسة تستند إلى ما أسماه ماكس فيبر ساخراً "غرور الفاتحين"!
وكان فيبر في إحدى محاضراته، قد ندد بظاهرة "التبجح الألماني" وانعدام التربية السياسية للأمة، مستحضراً تحذير الزعيم الألماني بسمارك من الوقوع في حبائل سياسة "الغرور".
والسبب أن "وضعنا الجغرافي يجعلنا بين الأقل قدرة على ممارسة سياسة تستند إلى غرور الفاتحين"، والحديث هنا عن ألمانيا.
ثم يقول فيبر: "لا نجد مسخاً أكثر ضرراً بالسياسة ممّا يقوم به فريق يلعب بالسلطة كما يلعب بها حديث نعمة فشَّار أو نرجسي مغرور".
ويحفظ لنا الأدب السياسي ما قاله الوفد الأثيني [نُسبةً إلى أثينا اليونانية] مخاطباً قادة مدينة ميلوس -حليفة اسبرطة- بعد فشل الوفد في إقناعهم بالخضوع طوعاً لسلطة الامبراطورية الأثينية:
"إنّ طريق السلامة هي أن يحافظ المرء على حقوقه عندما يكون الأمر متعلقاً بدولة مساوية في القوة لدولته، وأن يُظهِر الحنكة السياسية عندما يكون الأمر متعلقاً بمن هو أقوى منه، وأخيراً أن يكون عاقلاً منصفاً عندما يكون الأمر متعلقاً بمن هو دونه بأساً وقوة".
هذه الكلام بمثابة درس شامل في السياسة لكل الأزمان، لم يستفد منه -كما ينبغي- حتى الأثينيون أنفسهم!