لأول مرة محافظ المحافظة يتحدث بنفس لهجة أبي وخالي وعمي وأهل قريتي، وفي نفس الوقت يناضل للتصدي للظلم والإقصاء والتهميش الذي مورس على التهاميين خلال عقود ومازال؛ لأول مرة مسؤول تهامي بهذا المستوى ويحمل ذات الهموم والمشكلات والطموحات التي يحملها ويتحدث عنها أبناء التربة التي ينتمي إليها.
لأول مرة التقي "رجل دولة تهامي" في منصب أو رتبة عالية ولا أشعر أن وجوده في منصبه هذا مجرد ديكور أو تمثيل شكلي للقول بأن تهامة حاضرة في تشكيلة الحكومة.
لأول مرة اسمع وزيراً يسأل مرافقيه: "...فيان بكتن لما ذحين؟ وامجهلة ما وطوا؟ ..." يسألهم بلهجته ولا يرى في ذلك نقيصة أو عيبا؛ ولا يرى ضرورة لأن يلوي لسانه ويتحدث بلهجة منطقة أخرى باعتبار لهجته لهجة "...تهامي مسكين" لا تصلح للسلطة والحكم والهنجمة والنخيط.
احتفاؤنا بشيء كهذا هو أحد صور إفصاحنا عن مظلوميتنا وليس عنصرية؛ كما أن سعينا لانتزاع حقنا في إدارة محافظتنا بشكل كامل والحصول على حقنا في السلطة والثروة على مستوى البلد ليس عنصرية؛ ومطالباتنا برفع الظلم عنا وإعادة حقوقنا المنهوبة ليس عنصرية؛ العنصرية ما حل ويحل علينا كتهاميين منذ قرن من الزمان.
تشير معلومات إلى أن كافة وجميع وكل الموظفين في أجهزة الدولة من أبناء محافظة الحديدة (0.8%)؛ المحافظة التي يزيد تعدادها عن 11% من إجمالي سكان اليمن يمثلون أقل من واحد في المائة من إجمالي موظفي الدولة في مختلف الوظائف العامة للدولة (مدنية؛ عسكرية؛ دبلوماسية) أليس ذلك سبباً كافياً لثورة تهامية بكافة السبل المشروعة حتى يمكنوا من كافة حقوقهم التي سلبت منهم بالقوة القاتلة بداية ثم التسلط عليهم بالإفقار والتجهيل والنهب المنظم والحرمان من كافة حقوقهم كمواطنين؟
قرابة قرن من الزمان والآلة الإعلامية والممارسات العملية التي انتهجها مغتصبو الثروة والسلطة في اليمن عامة وتهامة بشكل خاص يكرسون في الوعي العام أن "..التهامي مسكين" حتى صدق أغلب الناس تلك الفرية بما في ذلك كثير من المحسوبين على النخبة المثقفة من أبناء تهامة، وتبعاً لتلك القناعات كان ولا يزال يتم إقصاء وتهميش التهاميين.
برغم الدماء والمآسي الكبيرة التي لحقت باليمن خلال السنوات الأخيرة، إلا أن تغييراً في الخارطة الجيوسياسية حدث بشكل أو آخر كنتيجة مباشرة للأحداث السياسية والأمنية التي لا زالت مستمرة حتى اليوم؛ فانهيار مراكز القوى التقليدية التي ظلت متحكمة في السلطة والثروة لعقود طويلة وما عداها عبارة عن كيانات شكلية خادمة لها بما في ذلك الجماعات السياسية والدينية التي سمت نفسها أحزاباً جماهيرية؛ ذلك الانهيار سمح بتخلق مراكز قوى جديدة لا زال الكثير منها في مرحلة التكوين؛ الأهم في هذا أن التغيير تجاوز الهدف أو المفهوم المباشر الذي كان في رؤوس الغالبية الساحقة ممن شاركوا فيه ليطال حتى مراكز النفوذ السياسي والديني والاجتماعي وأصبحت الجغرافيا أحد معايير الاستحقاق؛ وأصبح من الصعب تجاوزها إلا فيما ندر خلافاً لما كان عليه الحال في العقود الماضية حيث كان يمارس الفرز العنصري والمناطقي لاستمرار تمكين أقلية من الاستئثار بالسلطة والثروة بينما غالبية اليمنيين على الهامش ومن خرج على هذه المنظومة فهو العنصري وغير الوطني.
أنا شخصيا ضد الحرب والعنف والتمييز والإقصاء، لكن انتهاج البعض لها خلال العقود الماضية كسبيل للاستحوذ على السلطة والثروة دوناً عن غيرهم أوصل المظلومين إلى انتهاج ذات السلاح لانتزاع حقوقهم، فوجدنا التهامي والحضرمي والعدني والمأربي والتعزي وغيرهم من اليمنيين يعلنونها صراحة أنهم الأحق بالمنصب والوظيفة العامة في المحافظة التي ينتمي أحدهم إليها باعتباره ابن المحافظة ثم تأتي معايير الكفاءة والمهنية للمفاضلة بينه وبين ابن محافظته ويرفض تعيين أي شخص من خارجها مهما كانت الأسباب لتعيينه.
لتلك الأسباب وغيرها وجدت المحافظ والوزير والعسكري والأمني التهامي يتقلد منصباً غير مسبوق؛ يتقلده وهو غير مضطر لتغيير لهجته أو استبدال "المعوز والفوطة" بثوب وجنبية؛ يتقلده وهو يتحدث ببساطة التهامي الذي لا تستطيع أن تفرق بينه وبين مرافقيه أو أي من أبناء المنطقة التي ينتمي إليها لا من حيث المظهر ولا اللهجة.