الفهم الخاطئ لوظيفة "الصدقة" والأهداف السامية منها، حولها إلى فعل سالب للآدمية؛ مهين للكرامة، ومبدد للاعتداد بالنفس. فكانت النتيجة طوابير من المتسولين والاتكاليين والانتهازيين والعاطلين عن العمل الذين تعج بهم شوارع غالبية عواصم ومدن العالم الإسلامي؛ جميعهم قوة بشرية غير منتجة وغير ذات جدوى؛ ليس هذا فقط. بل إن تلك الفئات تمثل بيئة خصبة للجريمة والإرهاب والعنف القائم على الحقد المجتمعي كنتيجة للإذلال والتمييز الطبقي الذي ينمو مع غالبيتهم من بدايات تشكل وعيه كطفل مطحون محروم مهان مقصي مستبعد مهمش.
يتسبب التطبيق الخاطئ لمفهوم الصدقة وغياب آليات وسياسات إنفاقها في تبديد إمكانات مالية وبشرية هائلة فيما لا نفع منه على صعيد تنمية الإنسان وحماية كرامته وآدميته، حيث ظلت الصدقة محصورة في مجالات منصوص عليها في أحاديث دينية شبه محددة (بناء مسجد، وقف مقبرة، إطعام جائع، سقيا ماء... كفالة يتيم)، بينما (حقوق الإنسان، التنمية المستدامة، التمكين المجتمعي، التعافي الذاتي، بناء السلام، حماية ومناصرة ضحايا العنف... إلخ)، ليست ضمن أجندة واهتمامات "فاعلي الخير" وأغلب محاولات لإضافة تلك المجالات إلى قوائم اهتمامهم محكومة بالفشل باكراً أو بنتائج ضعيفة مهما كانت قضاياها عادلة وإنسانية ومثيرة للتعاطف فهي -ببساطة- غير مدعومة في التراث الديني والفكري بضمانات إلى الجنة.
في تقديري، فإن ذلك الانحراف في الفهم والتطبيق لفضيلة الصدقة أو ما يمكن الاصطلاح عليه ب"المسؤولية الاجتماعية للشركات والأفراد الميسورين" يثمل أحد أهم أسباب تزايد الانتهاكات والجرائم، لأن مرتكبيها في مأمن من العقاب، فالضحايا لا ناصر لهم ولا سند ولا ركن شديد، إذ لا توجد نصوص واضحة تحث على فضل ومثوبة الإنفاق على "حماية حقوق الإنسان" ف"الصدقة" وأجرها وفضلها مرتبطة في الوعي العام لدى الغالبية الساحقة بالأعمال التي وردت آيات قرآنية أو أحاديث نبوية حاثة عليها بشكل محدد مثل: كفالة اليتيم وبناء المساجد والإطعام والسقيا، لذا تجد وفرة في المساجد وموائد إفطار الصائمين مثلاً بينما تضيع قضية اغتصاب طفلة حتى الموت أو قتل طفل، لأن ولي أمر الضحية لم يجد كافلاً له بحيث يتمكن من تحريك قضية وتوكيل محامٍ ومتابعتها حتى ينال الإنصاف العادل من الجاني طبقاً للقانون، والسبب أن هذه الكرامة الإنسانية المهدرة لهذه الطفلة الفقيرة لا يوجد لها نص ديني يقول بأن من كفلها حتى تنتصر على مغتصبها فهو في الجنة أو بنى له الله قصراً في الجنة.
فقد نجد متبرعاً يقوم ببناء مسجد بخمسين ألف دولار في قرية بها مسجد أساساً بينما فتيات القرية لا يذهبن إلى المدرسة أو يضطررن لتركها بعد الصف الرابع أو الخامس لأنهن في بيئة اجتماعية ترفض الاختلاط ولا تعي اهمية تعليم الفتاة. وعدم توفر غرفة درس مستقلة كلفتها أقل من خمسة آلاف دولار لاستخدامها كفصل دراسي خاص بهن.