كان الثاني والعشرون من مايو (أيار) 1990 يوماً انتظره كثير من اليمنيين طويلاً، جنوباً وشمالاً، وترآوه أمل مستقبل مستقر ومزدهر بعد سنوات من خلاف واختلاف وانقسام داخل الأسر بين الأشقاء بلغ حد العداوة والاحتراب والاغتيالات والتفجيرات.
قبل قيام الوحدة، وتحديداً قبل خروج الجيش البريطاني من جنوب اليمن في 30 نوفمبر (تشرين الثاني) 1967، كان الوصول إليه من الشمال ميسراً والإقامة والعمل لا يخضعان لكثير من التعقيدات، ولم يكن الشعور بالاغتراب يسكن نفس أي قادم إليه.
كما كان الشمال بعد قيام الجمهورية في السادس والعشرين من سبتمبر (أيلول) 1962 ملجأ لكثير من قيادات جنوب اليمن من كل الأطياف السياسية، للابتعاد عن عيون المخابرات البريطانية وقواتها، وللتدريب على السلاح الذي كانوا يحصلون عليه، ولتيسير اتصالاتهم مع العالم، وعلى وجه الخصوص مع الحكومة المصرية التي كانت تدعم حق الجنوب بالاستقلال.
وبعد 1967 صار الشمال موطناً للهاربين من النظام الجديد، بينما أضحى الجنوب قبلة اليساريين الشماليين، وهو ما وصفه الشاعر عبد الله البردوني بقوله:
يمانيـون فـي المنـفـى… ومنفيـون فـي اليـمـن
جنوبيون في (صنعـاء)… شماليـون فـي (عـدن)
وكالأعـمـام والأخــوال… فـي الإصـرار والـوهـن
قبل خمسة وعشرين يوماً من خروج آخر جندي بريطاني من الجنوب ووقوع انقلاب في صنعاء في 5 نوفمبر 1967، كان النظام في الشمال منشغلاً حينها بالدفاع عن النظام الجمهوري الذي تعرض لضغوطات هائلة بعد انسحاب القوات المصرية إثر هزيمة يونيو (حزيران) 1967.
بعد أشهر قليلة بدأت صراعات الرفاق الدامية في الجنوب، وتبنى النظام نهجاً اشتراكياً صارماً وسياسة خارجية عدائية تجاه دول الجوار التي كان يضعها في خانة الأنظمة "الرجعية".
في نفس الوقت نجح النظام في الشمال في تثبيت أسس الجمهورية الوليدة وتحقيق المصالحة الوطنية في 1970 وعودة العلاقات الدبلوماسية بين اليمن الشمالي وكل جيرانه.
كانت الشكوك والاتهامات المتبادلة تسيطر وتتحكم في مسارات العلاقات بين الشطرين، فدارت حربان في عهدي الرئيسين الراحلين عبد الرحمن الإرياني وعلي عبد الله صالح شمالاً، وسالم ربيع علي وعبد الفتاح إسماعيل وعلي ناصر جنوباً، لتنتهي بوساطات عربية، ثم الإعلان عن إجراءات جديدة لتسريع التوجه نحو الوحدة والتوقيع على اتفاقات جديدة.
كان النظام في الشمال المحكوم قبلياً متردداً في الإنجاز السريع بسبب الريبة من طبيعة النظام اليساري وتوجهاته في الجنوب، ولم تكن الرغبة والحماسة راسختين بسبب الارتباطات والتأثيرات الخارجية التي لعبت دوراً معوقاً ومحبطاً.
جاء انتهاء الحرب الباردة وزوال الاتحاد السوفياتي محفزاً ومسرعاً للقيادتين لتوحيد البلاد، ولا بد أن الرئيس صالح قرأ أن النظام قد ضعف في الجنوب إثر أحداث 13 يناير (كانون الثاني) 1986 بين الرفاق، فتوجه إلى عدن بمشروع دولة فيدرالية أو كونفيدرالية، إلا أن الجميع فوجئ بأن أمين عام اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني علي سالم البيض، يقرر بعاطفة شديدة دون التشاور مع زملائه القبول والهرولة إلى الوحدة الاندماجية الفورية.
وجد قرار علي سالم البيض ترحيباً داخل المكتب السياسي وشعبياً عند المواطنين، وكانت المعارضة له خجولة وغير ذات قيمة لأن المزاج في الشارع بالجنوب كان متوافقاً مع القرار بسبب الأوضاع المعيشية التي كانت تزداد صعوبة، ونتيجة للعزلة الخارجية بعد أن صار النظام في عدن بلا سند سياسي واقتصادي إثر انهيار المنظومة الاشتراكية في أوروبا الشرقية.
هكذا تم الإعلان في 30 نوفمبر 1989 على أن يكون الثاني والعشرين من مايو 1990 هو يوم إعلان الجمهورية اليمنية.
تسبب هذا في إحداث ضغط اقتصادي هائل على منظومة الدولة في الجنوب، فلم تعد قادرة على تحمله دون التخلي عن النظام السياسي والانفتاح على الجميع.
لم تمنح الفرحة العارمة، عند الغالبية العظمى من المواطنين فرصة للتروي والتبصر في الخطوات اللاحقة للاتفاق.
كان الأمل في أن ينقل الجنوب شيئاً من الانضباط الإداري الذي بقت آثاره في الأذهان، بعد أن خرج الجيش البريطاني، ويعيش المواطنون فيه على دعم الدولة لكافة المواد الغذائية والخدمات على محدوديتها، بينما كان المواطن في الشمال أقل اعتماداً على الدولة وبه شبكة تكافل اجتماعي محلية أسهمت في تطوير الأرياف والزراعة.
ارتبكت أعمال كل المؤسسات بسبب التضخم في أعداد العاملين فيها، واختلاف نمط التعامل مع القضايا الأساسية، وكان الأخطر هو بقاء القوات المسلحة والأمن في كيانين منفصلين هيكلياً، وتبع ذلك سلسلة اغتيالات داخل وخارج العاصمة صنعاء طالت كثيرين من كوادر الحزب الاشتراكي.
ولم يكن حزب الإصلاح حليف الرئيس صالح الأساس منسجماً مع قضية الوحدة اليمنية لأن قياداته وكوادره كانت تتخذ موقفاً معادياً لقيامها مع نظام "ملحد" كما كانت تصف النظام في الجنوب.
لكن صالح استطاع طمأنتهم والتحكم في معارضتهم لما يدور.
بدأ منسوب التوتر في العلاقات بين الرئيس صالح ونائبه البيض يرتفع إلى أن بلغت الأمور ذروتها بعد انتخابات أبريل (نيسان) 1993، التي تقلص فيها عدد ممثلي الحزب الاشتراكي إلى 56 نائباً، وجاء ثالثاً بعد المؤتمر الشعبي (123) وحليفه حزب الإصلاح (62)، وهو ما رأى فيه البيض "إقصاء" له من الحكم، إذ تبعه أيضاً اختيار عبد المجيد الزنداني عضواً في مجلس الرئاسة الخماسي مع الاحتفاظ بمقعدين لكل من المؤتمر الشعبي والحزب الاشتراكي.
ولم يكن ذلك كافياً للتخفيف من مخاوف البيض والحزب الاشتراكي، فدخلت البلاد في مرحلة صراع سياسي و"اعتكف" كثير من قيادات الحزب في عدن رافضين العودة إلى صنعاء.
انتهت الأزمة بالتوقيع على ما عُرف بـ"وثيقة العهد والاتفاق" في الأردن شهر يناير 1994، ولم تكن سوى إشارة بدء استقطاب داخل الساحة اليمنية برهن الرئيس صالح أنه كان أمهر وأحذق في حياكة خطوطه، وأظهر أن تحالفات الحزب الاشتراكي في الشمال كانت واهية.
لم تمر أسابيع حتى بدأت المناوشات العسكرية بين "الجيشين" الشمالي والجنوبي، وتمكن صالح من استدعاء القيادات العسكرية الجنوبية التي فرت إلى الشمال بعد أحداث يناير 1986، وأعادهم إلى الخدمة واستعان بهم لمحاربة رفاق الأمس تحت شعاري الثأر و"تعميد الوحدة بالدم"، وصار عنوان تلك الحرب المدمرة للوحدة هو "الوحدة أو الموت".
لم تستمر حرب صيف 1994 طويلاً، وانتهت بانفراد صالح كلية بالحكم مع حليفه حزب الإصلاح.
بعد نهاية الحرب رافق التصرفات والمحاولات المستمرة لفرض توجهات اجتماعية وسياسية اندفاع غير طبيعي لنهب مؤسسات الدولة في الجنوب وأراضيها وحيازة الحقول النفطية، ولكن الأكثر خطورة كان تسريح أعداد كبيرة من ضباط الجيش والأمن وإنهاء خدمتهم قسرياً بما يشبه عمليه التطهير المناطقي.
كانت تلك الممارسات هي الشرارة الأخيرة التي أطفأت جذوة مشاعر الوحدة عند كثير من اليمنيين الجنوبيين وتركتها في مهب الريح.
إن الوحدة الحقة هي التي تمكن المواطن اليمني (شمالي وجنوبي) من الحصول على الفرصة المتساوية والكرامة والعدالة وحرية العمل والتنقل.
وليست شعارات ورفع علم ونشيد وطني واسترجاع روايات تاريخية، بل هي أكثر عمقاً وديمومة من هذه الظواهر، حتى وإن كانت مهمة.
*نقلا عن إندبندنت عربية