كان انطلاق حملة "عاصفة الحزم" فجر الـ 26 من مارس (آذار) 2015 محل اختلاف بين اليمنيين، فانقسموا بين مؤيد بلا شروط ومعارض بلا حدود، ومتحفظ يرى أنها لن تكون حلاً للأزمة اليمنية.
يقول كثيرون إن المحنة اليمنية بدأت عسكرياً في 21 سبتمبر 2014، لكن الوقائع تثبت أن هذا التاريخ كان تتويجاً لمرحلة سبقتها أصبح فيها وما زال السلاح عنواناً لها.
تغاضت الحكومة الانتقالية التي تشكلت بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية عن عمليات التطهير المتتالية التي قامت بها جماعة أنصار الله الحوثية داخل صعدة، ثم واصلت بمرأى من الجميع المنهاج نفسه، حتى وصلت صنعاء واتجهت جنوباً حتى بلغت عدن مروراً بتعز وإب.
كان العجز في مواجهة تحركات الحوثيين نتاجاً طبيعياً لأسلوب إدارة المرحلة الانتقالية، وما شابهها من ارتباك وتهافت للاستحواذ على مكاسب مادية ووظيفية، فانشغل الجميع عن الخطر الداهم الذي لم يدرك إلا قلة أخطار توسعه حتى ابتلع الجميع.
كانت جماعة أنصار الله منذ بداياتها تكويناً مغلقاً بين أبناء منطقة واحدة ومن مذهب واحد، وجاء تمددها تحت بصر الجميع، بل بتشجيع من السلطة حينها بغرض إضعاف جماعات دينية، اعتبرها الحكم مصدر خطر عليه، ورأى الحوثيون أنها دخيلة على المنطقة.
كان اعتماد الحوثيين في تمددهم البطيء والمخطط بعناية يعتمد على استغلال الجهل المتفشي في المناطق الجغرافية القريبة من مركزها في مدينة صعدة، مستخدمة الموروث القديم الراسخ في أذهان المواطنين هناك عن العلاقة بين "القبيلي" و"السيد"، وفي أحيان كانت تستخدم القسوة وسيلة للتعامل مع خصومها وإخضاعهم.
إنه لمن المؤسف أن الحركة الحوثية لم تقتنع حتى اللحظة بأن اتخاذ السلاح كوسيلة وحيدة للحكم لم يعد مقبولاً ولا مستساغاً ولا مفهوماً في عصر يمكن للقوة الباطشة أن تكون صاحبة الصوت المؤثر مؤقتاً، ولكنها لا يمكن أن تكون وسيلة حكم مستدام، مهما كانت المبررات والدوافع والحوافز.
تختلف القراءات حول أهمية وقف الحرب على واقعها الحالي، فجزء كبير من خصومها يؤمن بأن حركة أنصار الله الحوثية لا يمكن أن تتراجع عن مشروعها الفكري الذي تسميه "المسيرة القرآنية"، إلا إذا تمكنوا من كسرها عسكرياً وإجبارها على تسليم سلاحها، هذا أمر فيه مثالية سياسية، وفي الوقت نفسه غير واقعي على المدى المنظور بسبب تفكك الجبهة المعارضة للجماعة.
كان كثير من اليمنيين يظنون أن الحرب ستنتهي بسرعة فائقة وبضربة قاضية للحوثيين، وكانت قراءة شابها كثير من الأخطاء، فقد تفككت صفوف الحكومة الشرعية لأسباب تافهة لا تخفي على أحد، ولم يعد تحقيق النصر المؤمل يلوح في الأفق، مما يزيد من معاناة الناس الذين أصبح الطرفان مثل المطرقة والسندان، فكلاهما لا يقدر حجم وأهوال ما يعانيه الناس معيشياً وخدمياً، وكلاهما يصر على الاستمرار بالأسلوب نفسه الذي يعتقد أنه الأنجح.
وفي هذا المقام، فإن من أولويات السلطة الشرعية أن تبذل جهوداً حقيقية لاستعادة ثقة المواطنين من دون استثناء، سواء من يعيش في المناطق التي تقع تحت نفوذها أو تلك البعيدة منها، لأنها كي تستحق تمثيل كل الوطن فمن اللازم عليها أن تخدم أيضاً كل الوطن.
ومن المؤسف أن أحداً، عدا المستفيدين من وظائفهم معها، لم يعد يؤمن بقدراتها وكفاءتها وجدارتها في إدارة ما تحت يدها، وأصبح الفساد وتشرذم صفوفها مثار استهجان وسخرية المواطنين.
هذه قضية جوهرية تجب معالجتها، لأن عدم إنجازها يصيب جسد الشرعية في مقتل ويشوه ما تبقى من سمعتها.
في المقابل، يرى فريق من اليمنيين وغير اليمنيين أن وقف الحرب في أوضاعها الحالية وعودة الحياة الطبيعية إلى البلاد وفتح المعابر الداخلية، في تعز والحديدة والضالع، وعودة النشاط إلى المنافذ البحرية والجوية سيخفف، وهذا الأهم، معاناة الناس في الداخل، ويسمح بعودة كثير ممن فروا إلى خارج البلاد، وسيسهم حتماً في تخفيف التوترات المجتمعية، وسيفتح باباً أوسع لتفاهمات محلية تعيد تدريجاً الوئام النفسي بعد سنوات من الدمار والقتل والدماء.
هذا أيضاً سيشكل ضغطاً على جماعة أنصار الله الحوثية، لأنها ستصبح مسؤولة وملزمة للقيام بواجباتها كأي سلطة تسيطر على منطقة جغرافية صغيرة أو كبيرة، وسيلغي مبرراتها في التهرب منها تحت ذريعة الحرب وانشغالها في "الدفاع عن الوطن" وما تطلق عليه "العدوان الخارجي".
الإشكال أو المعضلة في هذين التصورين أنهما يستوجبان وجود الحكومة المعترف بها دولياً داخل الأراضي التي لا تخضع لسلطة الحوثيين، وهي النقطة الجوهرية التي يحاول "اتفاق الرياض" معالجتها منذ التوقيع عليه في 5 نوفمبر (تشرين الثاني) 2019. وعلى الرغم من أنه جاء لتعزيز مكانة الحكومة وقدراتها على تقديم الخدمات، وإقرار الأمن ودفع الرواتب، إلا أن الخلاف المحتدم بينها وبين المجلس الانتقالي حول تفسير الاتفاق عطّل كل المساعي السعودية المتواصلة للدفع به إلى المسار المؤمل الذي يساعد الحكومة في العودة للعمل من الداخل.
كما أنه أمر يرهق المسؤولين في الرياض ويشغلهم عن قضايا أخرى داخلية وإقليمية ودولية.
إنني حين أراجع الكيفية التي تدار بها العلاقة بين الحكومة والمجلس الانتقالي لا أجد لنفسي الخيال الكافي لتصور مشهد ذهابهما إلى محادثات السلام المحتملة، وكيف يمكن أن يعملا كفريق واحد يرتفع خلفهما علم الجمهورية اليمنية الذي يتمسك به طرف، ويرغب آخر ويعمل بهمة لاستبداله بعلم دولة أخرى، وأمامهما طرف واحد يعرف أهدافه ويتحرك تحت قيادة واحدة.
إن الشعوب قد تخضع للقوة مرحلياً وتتعايش معها، لكنها تخلق طبيعياً قدرة ذاتية على المقاومة.
يقول الرئيس التشيكي السابق فاسلاف هافيل، "المجتمع حيوان غامض جداً مكتنف بالأسرار، له وجوه وإمكاناته مخفية وعديدة، ومن قصر النظر البالغ أن تعتقد أن الوجه الذي يعرضه المجتمع لك في لحظة من اللحظات هو الوجه الصحيح الوحيد. لا أحد منا يعرف جميع الإمكانات التي تكمن نائمة في روح السكان".
* نقلا عن إندبندنت عربية