بين سراب السلام وكابوس الحرب، يقبع المواطن اليمني منهكاً عاجزاً تحت آثار معارك لا تتوقف بين أطراف صارت ترى في استمرار القتال مصدر إثراء في بلد لم يتبق لديه من مقومات الحياة الإنسانية إلا النزر القليل، وأصاب العالم الملل من متابعة أوضاعه.
وفي حين يعرف الجميع المسار الوحيد الذي يجب أن يسلكه اليمنيون للخروج من الحلقة الشريرة التي أوقعتهم فيها أطماع ذاتية وطموحات غير مرتبطة بحياة الناس وسعادتهم، إلا أن القادرين على الدفع في اتجاه إنهاء الحرب لم يصلوا إلى قناعة بوجوب ذلك، فقد تضخمت المصالح إلى حد صارت هي المتحكمة في تسييرها.
ويقول البعض إن الحل يبدأ بقبول جماعة "أنصار الله" الحوثية بالعودة إلى المسار السياسي عبر مخرجات الحوار الوطني والمبادرة الخليجية والقرار (2216)، في حين تصر الجماعة وجزء من المجتمع الدولي على أن هذه الوثائق قد تجاوزها الزمن، وعلى وجه التحديد القرار الأممي، وأن من الضروري إعادة صوغه في ضوء ما حدث من تطورات على الأرض لم تعد تسمح بالتطبيق الحرفي لنصوصه.
في الواقع ليس في الأمر ما يثير الانزعاج، لأن قبول الحكومة المعترف بها دولياً باتفاق ستوكهولم، والتعامل معه بإيجابية شكل اعترافاً صريحاً بسلطة الحوثيين على المساحة الجغرافية التي لا تسيطر عليها مؤسسات الحكومة اليمنية، لكن ما يثير القلق هو أن التمسك بحرفية نصوص الوثائق يمثل عقدة جادة لن تسهم في تحريك الجمود، كما أن التنازل عنها يُفقد الشرعية القوة الوحيدة التي تحفظ لها فرصة البقاء في المشهد.
هي بالفعل ورطة تسببت فيها الشرعية بفشلها في إدارة العملية السياسية.
بين هذين الطرفين يقف المجلس الانتقالي الجنوبي بمشروعه المرفوض منهما، وهو على الرغم من مشاركة خمسة من ممثليه في الحكومة التي نتجت من "اتفاق الرياض"، إلا أنه لا يلتزم بنصوصه ملقياً بالتهمة عليها، ويراهن على استمرار غيابها وعجزها وفسادها لتعزيز مكانته في المحافظات الجنوبية، وهذا أمر يزيد تعقيدات الوصول إلى المفاوضات التي يسعى إليها الإقليم والمجتمع الدولي.
وصارت اليمن قضية مزعجة للعالم من حيث آثارها الإنسانية، وهو جاد في التعامل معها في هذا الإطار وحسب.
كما أن استدامتها تزيد من مخاوف توسع نشاط الجماعات الإرهابية وتكاثر الميليشيات التي لا تخضع لسيطرة جهات معروفة.
هذه قضية مؤرقة للعالم، لكنه سيتجاهلها إذا لم تنته الحرب سريعاً ويدخل اليمنيون في طريق مغاير لما دار خلال السنوات السبع الماضية.
النموذج الأفغاني ماثل أمامنا، وخلاصته أن دولتين كبريين مرتا على ذلك البلد ذي التضاريس القاسية التي لا تختلف كثيراً عن الجغرافيا اليمنية وقلة الموارد، وتحملتا كلفة مالية وبشرية باهظة، لكنهما في النهاية أعلنتا الفشل، ففر الاتحاد السوفياتي بعد هزيمة كبيرة، وأخيراً قررت الولايات المتحدة الانسحاب بعد أن رأت أن بقاء قواتها هناك وانخراطها في حرب دائمة لن يحققا أية نتيجة مغايرة لما نراه اليوم.
تكشف نتيجة الحرب الأفغانية وانسحاب القوات الأميركية أن الحكومة الأفغانية المعترف بها دولياً تقف أمام اختبار حاسم تقول التقارير الكثيرة، إنها لن تتمكن من مواجهته، وربما لن تكون قادرة على الاستمرار في الحكم من العاصمة إلا باتفاق تفرض شروطه حركة طالبان، وهو أمر منطقي لن تسمح به الحركة من دون أن تكون شريكة في إدارة الدولة.
وإذا ما أجرينا إسقاطاً من نتائج الحال في أفغانستان على الواقع اليمني، فإن علينا أن نتساءل ماذا إذا قررت السعودية لأسباب سياسية واقتصادية أنها غير راغبة في استمرار تدخلها في الحرب، وهي في كل الأحوال قادرة على تأمين حدودها، وأن تبدي استعدادها للدخول في حوارات جادة مع إيران خصمها الأكبر في المنطقة، وأجرت حوارات معها في أكثر من عاصمة عربية.
إن الجواب عن هذا التساؤل يضع الحكومة اليمنية أمام خيارات غاية في الصعوبة والتعقيد، فهي لم تتمكن من إحكام سيطرتها على ما تسميه "المناطق المحررة"، وعجزت عن تقديم نموذج حكم رشيد في أدنى حدوده يجعل المواطنين الذين يعيشون في المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون قادرين على عقد المقارنة بين النموذجين.
من المؤسف أن كل الحكومات بعد 2015 فشلت في معالجة أوجه القصور والعجز، ولم تبذل جهوداً حقيقية لمواجهة مظاهر الفساد والتسيب الإداري والمالي، مما جعل الناس لا يكترثون لمصيرها، وما عادوا يعولون عليها في تدبير أمورهم والدفاع عن البلاد.
الأوضاع في مأرب صعبة للغاية، والحوثيون يصرون على اقتحامها، والمدافعون عنها أرهقهم الحصار الطويل وشح الإمدادات التي لا تكفي إلا للبقاء في حال دفاع مستميت قد لا يطول عن النفس والأرض، وفي تعز هناك واقع تتقاسمه ميليشيات كثيرة تزعم أنها تتبع "الشرعية"، لكنها في الواقع منقسمة بين ارتباطات خارجية مباشرة ومعلنة وبين ولاءات بخطوط حزبية إلى جانب أن بعضها تحول إلى تكوينات تدير المدينة على شكل مربعات تتحكم في مواردها، وتفرض الجبايات فيها على الناس والتجار.
وفي الجنوب ارتفعت أخيراً نبرة التحدي عند قيادة المجلس الانتقالي الجنوبي، مما يهدد بمواجهة قريبة بين قواته والقوات التي ما زالت تتبع الرئيس عبدربه منصور هادي، وأخطر ما في الأمر هو أن قائد المنطقة العسكرية الرابعة التي تشمل منطقة جغرافية تدخل تعز ضمنها، موال للمجلس ويتلقى التعليمات منه، وهذا وضع شاذ يفسر الاضطراب الذي يضرب جذور "الشرعية" ويجعل وجودها الفعلي منحصراً في أضيق الحدود، وهي لا تعمل على تصحيحه وإجراء تغييرات في قياداته لأسباب مناطقية صرفة.
بين الأمل والسراب يظل اليمنيون يبحثون عن المنقذ غودو، الذي لا يعرفونه ولا يعلمون صفاته، ولا يريدون أن يعوا أنه لن يحضر أبداً.
*نقلا عن اندبندنت عربية